ما لبث البرلمان المصري أن أعلن عن موافقة لجنته العامة على تعديل بعض مواد الدستور إلا وانقسم الناس بين مؤيد بالكامل ومعارض على الإطلاق ومترقب بخوف وحذر، ولكل فئة مبرراتها ومنطقها. وسوف أحاول في هذه السلسلة من المقالات، والتي سيتم نشرها في نفس الموعد من كل أسبوع، تناول المسألة من كل أبعادها للوقوف على حقيقة إذا ما كانت هذه التعديلات تصب بالفعل في مصلحة بناء مستقبل أكثر استقراراً للدولة الديمقراطية الليبرالية التي نسعى إليها وبدأنا بالفعل نرى بوادرها في العامين الماضيين.
وسأبدأ هذه السلسلة من المقالات الخاصة بالتعديلات الدستورية بتناول مواقف الثلاث فئات سالفة الذكر ورد فعلهم على فكرة تعديل الدستور في حد ذاتها.
أما الفئة الأولى، فئة المؤيد بالكامل، فأغلبها من مصريين عاديين عانوا طويلاً من ويلات الصراع السياسي على السلطة عقب ثورة يناير، وأصطدموا بفاجعة تولي جماعة الإخوان المسلمين حكم مصر، بالرغم من تاريخها الإجرامي في حق الوطن والدين، ثم شاركوا في ثورة 30 يونيو ضد الإخوان، وعرضوا حياتهم للخطر في مقاومة الانتقام الدموي للإخوان، وقد شهدوا بأعينهم الدور البطولي للجيش والشرطة في حماية الشعب من براثن الإخوان عقب 2013.
كان بطل هذه المرحلة الصعبة هو الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، الذي وهب نفسه تماماً لقضية الحفاظ على استقرار مصر، وأثبت بالفعل انحيازه المطلق لشعب مصر وإرادته، المرة الأولى في يناير 2011 حين كان رئيساً للمخابرات الحربية، والثانية في يونيو 2013 حين كان وزيراً للدفاع، والثالثة عقب توليه الرئاسة في 2014 حيث قاد نهضة تنموية غير مسبوقة في تاريخنا الحديث، مصحوبة باستقرار أمني كان يظنه المصريون مستحيلاً وسط منطقة ما زالت نيران الربيع العربي تشتعل في أرجائها.
بالنسبة لهذه الفئة فإن الموافقة المطلقة على التعديلات الدستورية هي في نظرهم موافقة مطلقة على استمرار الرئيس السيسي في الحكم لأكبر فترة ممكنة، بما يعني ضمان بقاء هذه الحالة من الاستقرار والتنمية لأطول فترة ممكنة، ولا يمكن لمخلوق أن يلوم مواطن على رغبته في العيش في وطن آمن ومستقر ويسعى للتطور، فما نفع المواطن بالديمقراطية لو أنها جلبت عليه الفوضى أو عدم الاستقرار وفتحت باب الصراعات السياسية من جديد، على يد نخبة سياسية عقيمة التفكير ومحدودة الرؤية لا تمتلك سوى معاول للهدم وتترفع عن المشاركة في أي عملية بناء حقيقية للدولة.
أما الفئة الثانية، وهم المعارضون لمسألة تعديل الدستور بشكل مطلق، فهم أنفسهم نفس التكتلات والأفراد الذين وصفوا هذا الدستور بعد إقراره في 2014 بأنه دستور معيب وأنه تم تفصيله على مقاس الرئيس السيسي ولأجله، ولا أعرف كيف ينصب هؤلاء أنفسهم كمدافعين عن الديمقراطية في مصر بينما هم برفضهم للتعديلات الدستورية يرفضون منح مزيد من الحقوق المدنية والسياسية والامتيازات غير المسبوقة للمرأة والشباب والاقباط، فضلاً على تعيين نائب أو أكثر لرئيس الجمهورية، والذي كان مطلباً أساسياً من مطالب ثورة يناير.
لكن، حصرت هذه الفئة التعديلات الدستورية فقط في مسألة زيادة عدد سنوات كل فترة رئاسية من أربع إلى ست سنوات، على الرغم من أن هذا المقترح هو مقترح وحيد ضمن أكثر من خمسة عشر مقترح أخر، وغرضهم من ذلك الاستمرار في تصوير مصر للعالم على أنها دولة "فرعون الديكتاتورية الظالمة"، لأن لهم في انتشار هذه الإكذوبة والإصرار على تكرارها مصالح تدعم بقاؤهم منعمين في الدول التي تستضيفهم بعد هروبهم من مصر، أو حتى تحقق لهم مآربهم في إسقاط الرئيس السيسي أو على الأقل تشويه صورته كجزء من انتقامهم المؤجل لصالح جماعة الإخوان المسلمين التي يدعمونها أو ينتمون إليها.
ووالله لو كان فرعون نفسه حياً لما استطاع أن يحول مصر إلى دولة ديكتاتورية بعد أن قام هذا الشعب بثورتين مهيبتين أولها ضد ثلاثين عاماً من ديكتاتورية مبارك، والثانية ضد ثمانين عاماً من ثيوقراطية الإخوان المسلمين وأحلام الخلافة التي قضوا في بناءها عقوداً، كيف يتصور عاقل أن هذا الشعب ساذج أو مغيب أو لا يعرف ما يريد. وبأي حق يعينون أنفسهم متحدثين باسم هذا الشعب، ويستخدمون حجة الديمقراطية كمسمار جحا للتحدث باسمه في مسألة معارضة تعديل الدستور من عدمه؟
أما الفئة الثالثة، هؤلاء المترقبون بحذر، فأغلبهم من الشباب الحالمين بدولة ديمقراطية حرة، الخائفين على ضياع كل ما تحقق من مكاسب في اتجاه بناء الدولة المصرية بعد ثورة يناير، هم الحائرون الذين تغلب عليهم المثالية إلى درجة السذاجة أحياناً، فتجدهم يقدسون الدستور كأحد المعايير الأساسية التي يقيسون بها التقدم الديمقراطي للدولة، ويظنون أن أي تغيير قد يطرأ عليه هو كسر لهيبة القانون وتهديد للتطور الديمقراطي، وهذا الخوف في أغلبه هو نتاج تراكم خبرات سابقة سيئة تعرض لها هؤلاء الشباب أثناء فترة حكم مبارك، بالرغم من ثقتهم المطلقة في نزاهة الرئيس السيسي وحسن قيادته للبلاد، وأن منصب الرئيس بالنسبة له ليس غاية بل مجرد وسيلة للعبور بمصر إلى المستقبل.
نفس حالة الخوف تلك أصابت هذه الفئة أثناء الإعلان عن عودة تطبيق حالة الطوارئ قبل بضعة سنوات، وظنوا أن الرئيس السيسي يمهد لممارسات قمعية تشبه تلك التي رأينها في العقد الأخير من عهد مبارك، لكن لم يحدث ذلك، بل وتنازل الرئيس عن الصلاحيات التي يمنحها له قانون الطوارئ لصالح رئيس الوزراء، ليبعد بنفسه تماماً عن أي شبهة استغلال لهذا القانون لصالحه أو لصالح المنصب الذي يشغله.
ولنا في مسألة التعديلات الدستورية مقالات لاحقة ستنشر في نفس التوقيت الأسابيع القادمة إن شاء الله.