top of page

بين مسارح الحرية ومراعي العدالة: ملاسنات في فلسفة الحكومة الراشدة


Justice and freedom

دكتور أمباي بشير لو هو أستاذ دراسات الشرق الأوسط والدولية المقارنة بجامعة ديوك الأمريكية.

مقدمة:

بداية أعتذر عن كون الدراسة هذه جدلية بعيدة عن النمط التشاوري المعهود في الدراسات الحالية لقضية العدالة والحرية. ومقصد الدراسة هو إعادة تناول مسألة العدالة التي طغت على فكرنا السياسي جراء تمركزها في الخيار الإسلامي التقليدي والحركي الحديث .

فكما يذكر الأستاذ جمال البنا في كتابه عن "نظرية العدل في الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي" أن العدل "هو فضيلة الإسلام وقيمته العظمى."[1] وقد أردف البنا في نفس المرجع بأن هناك قرابة ثلاثمائة من آيات القرآن الكريم شواهد على مركزية العدل في الإسلام . وأن الآيات التي حثت على العدل وحذرت من الظلم وأمرت بالحق قد وصلت إلى قرابة ألف آية.

إن إشكالية المجتمعات العربية الإسلامية  - في رأينا - تنبطح في فشلها في إحكام العدل مرتكز تراثها الديني . بحسب المعايير الدولية المتنوعة، مثل فريدوم هاوس ومؤسسة القانون الدولي وتقرير التنمية الصادر عن الأمم المتحدة، فان دول المنطقة تقبع في أسفل السلم الدولي لـمعيار تحكيم العدالة في مجتمعاتها . وليس بخافِ على أحد، الزخم الإعلامي الكبير الذي يصلنا يوميا من الروافد التاريخية وقصص الماضي كما في حكايات الحاضر عن المظلومات على المستوى الرسمي والمجتمعي في هذه الدول . والمقيم في الغرب مفعم بحجم الاضطهاد الذي يزيح بحياة سكان المنطقة ويضطرهم إلى الهجرة واللجوء  الى الغرب.

والعجيب في المعادلة هذه هو أن الدول التي تلجأ إليها أبناء البلاد المسخرة للعدل والمساواة لم تكن فلسفتها السياسية في الغالب قائمة على تحكيم العدل بمطلقاتها العملية ؛ بل تثبيت الحرية بخصوصياتها الفردية. وهذا ما حظى باستاذ جمال البنا إلى التساؤل : "كيف حدث أن حققت أوروبا العدالة دون أن يكون العدل في قيمها الحضارية الحاكمة وأهملت المجتمعات الإسلامية العدل وهو روح الإسلام؟" [2] والإجابة على هذا السؤال هو جوهر دراستنا هذه.

لم تكن فضيلة العدل قيمة سياسية في العقلية الفلسفية الغربية  منذ عصر النهضة في القرن السابع عشر. صحيح أن الأخلاق وفضيلة العدل لها حضورها الملحوظ في أعمال جهابذة الفكر الإغريقي من أفلاطون إلى أرسطو؛ وكتاب أرسطو عن الفضائل أو الأخلاق المسمى" Nicomachean Ethics" مازال يعتبر أم المراجع في الفضائل والأخلاق. لكن عصر النضهة الأوروبية كانت ثورة للحرية المطلقة ولم تحز فضيلة العدالة باهتمام يذكر.

وكان هناك عدد من الكتب  مثل هذا المنحى المنحاز لفضيلة الحرية. فكانت هناك كتابات فرانسوا ماري أرويه المعروف بـ "فولتير" في كتاب "مقالات في عادات وأخلاقيات الأمم"، وكتاب جرمي بينهام عن "مطلب المنفعة" وكذلك كتابات ديفيد هيوم عن "طبائع الأمم" وسفر جون لوك المعروف ب"طبيعة الإنسان" وأخيرا كان هناك كتاب تومس هوبس عن "البهيمة". وقد افتقدت الساحة الفكرية الثورية حينها إلى كتابات عن العدالة وأهميتها إلا ما شذ في نهائيات العصر من الكتابات الماركسية الشيوعية عن أهمية العدالة الاجتماعية كمعول لمطارحة الرأسمالية الجامحة .

مسارح الحرية هي مراعي العدالة

إن العلاقة بين الحرية والعدالة علاقة جدلية فلسفية وقد طغت على دراستها سمة التصادم الحضاري بين الشرق والغرب لدى البعض ممن يسترشد بالأيدولوجيات السياسية في البحث العلمي  بينما شاعت في الآونة الأخيرة رؤى نقدية منهجية ترى أن العدالة الحقة لا تتأتى إلا بوجود الحرية السياسية ومن ثم صح القول بأن مسارح الحرية تكون مراعي العدالة.

ومن هذا المنطلق، ركز تراث عهد النهضة المبني على فضيلة الحرية على هذا المنطق السياسي والمجتمعي. وجدير بالذكر أن مفكري النهضة الأوروبية هذه لم يرفضوا الحوجة إلى العدالة للصالح العام، بل ارتأوا أ ن حقيقة العدالة لا تستقيم إلا بتمكن فضيلة الحرية بين الناس . وأن العدالة تكون نتاجا للحرية السياسية وليس العكس.

تفاني مفكري النهضة المنهجي في إرساء فضيلة الحرية السياسية بغض النظر عن الفضائل الأخرى بما فيها العدالة أدى إلى نشوز الفيلسوف الكبير  أمانويل لاويناس  من هذا الاتجاه بل تمرده العلني على النهج الغربي الذي أسمّاه "ثورة أثيينا وروما على أورشلين"  أي ثورة السياسة على الأخلاق . وهو يقصد المفارقة الموجودة بين منظري النهضة الأوروبية بين السياسة والأخلاق، بل ذهب إلى حد القول:"السياسة متروكة إلى نفسها لن تولد سوى الاستبداد. "[3]

لقد كان هذه المنحى في مبدئ فلسفة (الحياة الخيّرة)  في فضيلة الحرية أكثر جلاء في أعمال فلاسفة الاقتصاد الرأسمالي من أعمال جرمي بينهام  في المنفعة لـ "ليوترتارين" في القرن الثامن والتاسع عشر إلى جهابذة فلسفلة السوق الحرة والنيو ليبرالية في القرن العشرين أمثال فريديريك هاييك (1899-1992) وميلتون فريدمان (1912-2006) يلحظ المتأمل منهجية وعلمية ً في ترويج فضيلة الحرية فوق أخواتها من الفضائل الأخرى؛ وقد أبدى رواد هذه الحركة معركة علمية ضد الرفض الماركسي لهذا الاتجاه.

بينما ذهب فلاسفة الماركسية من كارل ماركس وهيغل وتلامذتهم من وارثي قناعاتهم الاقتصادية في القرن العشرين الى أن فضيلة العدالة الاقتصادية هي الأولى تقديسا من حيث منفعتها لفلسفة لحياة الخيّرة. وقد رفض بروفسور  فريديريك هاييك هذا الاتجاه واعتبر أن محاولة بني الإنسان أفرادا كانوا أم جماعات هندسة مسار تفكير الناس تحت دعوى "العدالة الاجتماعية" ليس سوى مرتبة أخرى من رتب الديكتاتورية السلطوية.  ففي كتاب "الطريق إلى الاستبداد" أعلن  هاييك أن "التخطيط السياسي الرامي إلى إحكام العدالة الاجتماعية لن يؤدي بنا إلا إلى الاستبداد."[4]

وفي نفس المنوال صرح  فريدمان في كتابه "الرأسمالية والحرية" بأن فضيلة الحرية أحق من أن تتبع لأن العدالة لا تتأتّى إلا باطراد الحرية بينما باطراد العدالة المفروضة على المجتمع تنعدم الحرية. وعليه، على الحكومات أن ترفع أياديها عن توجيه شأن الاقتصاد سياسة السوق وأن عليها فقط أن توفر الفرص سواسية بين أعوان السوق دون ما هندسة ٍ لمساراتها.[5]

ليس من أهداف هذه الدراسة التبيان أو الدفاع عن الجانب الاقتصادي لفلسفة الحرية الليبرالية وإخفاقاتها فقد اتفقت غالبية دارسي الظاهرة على وجود خلل في معطياتها التي أرست مظاهر عدم المساواة بين الناس وتفاوت الفرص بين الدول، وشجعت الغزو والاستعمار في الماضي والحاضر ولهذا الموضوع مجالات أخرى للحديث ومنابر متخصصة للخوض فيها.

المهم عندنا في هذه الدراسة هو الناحية النظرية للعدالة حيث إن الفلاسفة قديما وحديثا لم يقللوا من شأن العدالة كفضيلة قصوى لذاتها لكنهم انشغلوا في منهج البحث عن الوسيلة المثلى لتحقيقها. والسؤال هو: هل الحرية هي الأكثر ضمانا للعدالة أم العكس؟

يجب علينا عدم التقليل من شأن هذا السؤال أو غض النظر عن فلسفة دعاتها. لقد رأينا حسب المعايير الدولية وحكايات المهاجرين والمهجرين معا ً أنهم ألفوا العدالة أكثر حضورا في المهجر الغربي من غيره. وليست الإجابة على هذا السؤال بهينة فتعتبر كتاب الفيلسوف جون راولس المعروف بـ "نظرية العدل" أحسن ما كتب في العصر الحديث حول نظرية العدالة و ماهيتها. لقد حاول بروفسور راولس سد ثغرة في دراسات الفلسفة السياسية التي تفانت في البحث عن الحرية على حساب العدالة وكتابه الصادم السالف الذكر يعتبر مرجعا فلسفيا أساسيا ضمن المناهج التطبيقية لإحكام العدالة. والسؤال المنهجي في هذا السفر هو كيف يمكن إحكام العدالة بمعانيها الحقيقية؟ أو كما يذهب في الكتاب: "كيف يمكن التوزيع العادل لمتاع الحياة في مجتمع ما؟" [6]

بعد نقاش مستفاض لإشكالية فضيلة العدالة من حيث نسبية معانيها وإشكالية إرضاء جميع الأطراف المعنية لعدم تساوي المهارات والقدرات  بين الناس طفق إلى القول بأن العدالة من حيث التطبيق لا تستطيع أن تعني سوى الإنصاف "Fairness" ومن هنا ضرب مبدأه المشهور بأنه من أجل تحقيق الحرية تجب هندسة المجتمع بطريقة توفر أقصى درجات الحرية الشخصية لأفراده حيث لا توقف حدود حرية الأفراد إلا عند حدود حرية الآخرين.[7] ويذهب البروفسور إلى القول بأن العدالة الحق لا تحدث إلا إذا افترضنا أن هناك الوضع الأصلي (Original Position)  حيث يولد الناس إلى مجتمع فاضل خيالي يأتون فيه إلى أسر لا تشوبها الأوضاع المالية ولا العرقية متساوون فيها بالفطرة.

المهم في دراسة بروفسور راولس هو بسطه لفضيلة الحرية كشرط لفضيلة العدالة وأن الناس أفرادا كانوا أو مجتمعات يحنون إلى العدالة من مبدأ الحرية وأن درجة حرية الأفراد في القرارات التي تتحكم في حياتهم وانطباعاتهم لأنصاف الآخرين تجاههم هو المعيار الذي يكون حقيقة العدالة عندهم. وعليه يجب علينا مراجعة مسائل العدالة الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها مبدئيا مسائل في نظرية الحرية.

بنى بروفسور آمرتيا سن رؤى اقتصادية جديدة على استنباطات بروفسور راولس ومفادها أن النمو الاقتصادي الذي يعتبر من مقاصد الحكومة الرشيدة هو في الحقيقة مسألة في الحريات الشخصية وليست بالضرورة مسائل اقتصادية أو صفحات جانبية في مسائل العدالة الاجتماعية. وهذا الطرح هو عنوان كتابه الشهير Development as Freedom  ويعني النمو الاقتصادي مسألة حرية بالأساس. والذي ساهم في فوزه بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1998.

ومبلغ القول في الكتاب هو أن مسائل الديمقراطية والحوكمة الرشيدة شائكة وقد تكون غامضة سفسطية في غياب معايير عملية ملموسة. وأن النمو الاقتصادي يلزم نوعا من الحرية السياسية بما فيها الشفافية في العلاقات الاجتماعية، الحرية في اقتناص الفرص الاقتصادية، والقروض الائتمانية وضمان اقتصادي من الفقر المدقق بما يحتوي ذلك من دخل مالي في حالة العجز أو البطالة. وفي القاموس الإداري للحكومة الرشيدة: الفقر في رأي بروفسور سن يعني غياب الحرية الذي خصه بمصطلح جديد في قاموس الدراسات الاقتصادية (Unfreedom) أو "اللاحرية" لأن كل القرائن العلمية تدل على وجود علاقة عضدية بين الفقر وغياب الحرية والعبارة الأخيرة هذه تدل على انعدام الحقوق السياسية؛ حرية الاختيار ووجود القابلية للاستضعاف.