top of page

نقمة كورونا ونعمة كورونا بين الإنسان والدولة



الكاتب: د. أمباي بشير لو Mbaye Lo ، جامعة دوك الأمريكية


في عام ١٦٥٣م، جمع السلطان العثماني محمد الرابع كيانه وحواشيه واشتكى إليهم ضيق ذات يده وهوان دولته، وذكر لهم أن سلطات دولته تقلصت في عهده مع أن موارد الدولة ليست أقل مما كانت عليها في عهد سالفيه. وبينما طفق الوزراء والمستشارون في البحث عن جواب شاف انبرى لهم كاتب الدولة، المستشار شلبي، وكتب إلى السلطان أن أعمار الدول مثل إعمار البشر وأن الفرق الوحيد هو أن الإنسان كائن بيولوجي، لكن الدولة شبيهة به. إذ يمر الانسان عبر ثلاثة أطوار في رحلة الحياة بعد الولادة: سن اليفاعة، مرحلة البلوغ وأيام الشيخوخة، ثم يأتي العجز الذي يعقبه الموت لا محالة. إنسانا كان الكائن أم دولة فالأعمار تعتمد على عناصر الصحة والحيوية والمجاهدة لمدها.


بعد مرور قرن على مقال الكاتب شلبي، وبالتحديد في عام ١٧٥٨م، نشر المحامي السويسي الفرنسي "إيميريش دافاتال" كتاباً باسم "Le droit des gens" والذي أيضا أسماه قانون الطبيعة مطبقاً على تصرفات وشؤون الدولة والحكام. وجدير بالذكر، أن إيميريش يعتبر أبو القانون الدولي الحديث، وفي الكتاب أعطى الدول حقوقا متساوية بينها طبق مفهوم المساواة المتصور بين البشر. و منذ ذلك الوقت، أصبحت الدول كفءً ومتساوين في حقوقهم وواجباتهم كما الشأن بين البشر.


لقد أرهق التأمل في التشابه النمطي بين حياة الإنسان وحياة الدول مؤسسي الدولة الأمريكية الحديثة، والذين أرادوا هيكلة مؤسسة سياسية تبقى ما بقي الزمان. فكان "جيمس مديسون" أحد ربان المجموعة وفلاسفتها الذين وضعوا لبنات الدستور الأمريكي الحالي، الذي يعتبر اليوم أقدم دستور يعمل به في العالم، وبعد تأمل في هذا التشابه المزمن وكيف أنه ينذر ضمنياً بحتمية نهاية هذه التجربة الأمريكية في بناء الدولة، كتب مديسون عام ١٧٨٨م، في أوراق الفيدراليات عدة مقالات في هذا الصدد.


ارتأى مديسون أن فكرة تأسيس الدولة هي أعظم ما توصلت إليه قريحة الإنسان، وأنه ولأجل بقاء الفكرة يجب "عدم إسناد مؤسسة الدولة على أخلاقيات الناس و درجة تدينهم"، "بل يجب فصل سلطاتها وتأمين استقلالية هياكلها بعضها من بعض داخل الحكومة" وأنه "يجب التأكيد على أن الناس ليسوا ملائكة. ولو كان الناس ملائكة لما احتجنا في الحقيقة إلى دولة. ولو كانت الملائكة يحكمون بني الانسان لما كان هناك حاجة لوضع قيود داخلية أو خارجية في مؤسسة الدولة... و في بناء نموذج دولة يتميز فيها الانسان بميزة الحكم على بني جلدته، تبدو العقبة الكبرى في الآتي: تمكين الدولة على المحكومين، ثم تمكين الدولة على نفسها حتى تحد من نزعتها السطوية السلطوية بنفسها."


في عام ١٩٦٥م، فاجأ البروفسور "مانكر ألسون" (Mancur Olson) الجمهور الأكاديمي بكتابه الصادم حول منطق العمل الجماعي، ومفاده أن ديمومة المؤسسات تكون بمقدار هموم الأفراد وعزائمهم، وأن تكالب الأفراد في جماعات مصلحية متجانسة سوف يمثل لجاماً على نمو المؤسسات وإزدهارها. الجدير بالذكر في أطروحة بروفسور ألسون هو قوله بأن التمردات الفردية والزخم الجمعي التنافسي في المجتمع هي سر الطفرات النوعية في الدولة.


قام البروفسورعام ١٩٨٢م بمراجعة قاعدة النظرية وتوطيدها في كتاب أسماه "نهوض وهبوط الأمم:" "The Rise and Decline of Nations". وجملة القول في الكتاب هي أن الأمم اللتي طالتها النكسات هي أقرب الأمم إلى وسائل النهوض، مما يعني ضمنياً أن التراخي في الأمان من أسباب القعود والركوض، وذكر أن الدول التي احتلت أو دمرت في الحرب العالمية الثانية مثلاً هي أقرب الدول إلى النهوض شأن اليابان، ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا، فرنسا، إلخ. علماً بأن الدول التي تضررت أكثر من الحرب مثل اليابان وألمانيا كانتا في قمة الدول الناهضة.


لم يكن بروفسور ألسون بدعاً من منظري هذه النظرية. فقد سبقه المفكر السنغالي بروفسور "شيخ أنتا ديوب" الذي ذهب في بعض محاضراته إلى اعتبار الثورات مدخلاً لتقدم الأمم ونهضتها، و لفت ديوب النظر إلى أن هناء الحياة التقليدية في أفريقيا قد يكون السبب في قعود الأفارقة عن غزو غيرهم، فجاءهم العرب فاتحين برسالتهم، كما داهمهم الأوروبيون غازين لمآربهم. وأقسم بروفيسور ديوب أن القاسم المشترك بين الأمم الرائدة اليوم هو أن شعوبها أصحاب ثورات وحروب ونكسات.

نعم! النكسات، سواء أكانت من صنع البشر أم من عوادي الطبيعة، هي من أسباب ديمومة الحضارات وحيوية الشعوب.


كنت كتبت في خريف ٢٠١٦م، عشية فوز رجل الأعمال دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية أنه "وفّى كل خير" وأن تولي رجل يخالف العرف السياسي والأخلاقي مقاليد الدولة سوف يشخص الهمم ويرجع الحيوية إلى المجتمع المدني الأمريكي الذي طالما تقاعس عن واجبه المدني في مقارعة تجاوزات الشرطة على حقوق الأقليات والمهاجرين.


أشرت في المقال إلى أن هذا التحول قد يكون نافحة عافية في جسد مؤسسات الدولة على المدى البعيد. فمبادئ الرجل الفكري المنفعي، كما تباهى بها في كتابه عن فن صناعة الصفقات، تمثل نقيض قيمنا الأكاديمية النبيلة، وسوف تخلف حساً ديناميكياً جديداً في هياكل الدولة، فظاهرة الرجل في الحقيقة تمثل تحد لشعارات الدولة الديموقراطية، فإن تمكنت الدولة من تجاوزها فستسترجع ديمومتها وحيويتها، وإن نكست في مواجهتها فذلك درس للديموقراطيات الأخرى خصوصاً وللتجربة الإنسانية عموما.


وجدير بالذكر أن ترهل حكومة الرجل في التعامل مع جائحة فيروس كورونا يمثل وقفة أخرى ضمن هذه المحطات النوعية التي سوف ترمم مبادئ التقادم وحيوية المجتمع من جديد، فنكسة كورونا لا تتعدى سواها من النكبات العالمية المدوية التي تمثل صدمة كارثية في رحلتنا مع مفهوم الإنسان والدولة.


فقد كان هناك وباء الموت الأسود (black death) بين عامي ١٣٤٦م ١٣٥٣م، وقد أباد هذا الوباء من البشرية مائتي مليون شخص، ثم كان هناك رحلة الكشوفات وما تلاها من الاستعمار الذي قتل ٩٠ بالمائة من سكان العالم الجديد، وملايين آخرين من سكان البشرية، و كذلك كان هناك وباء الانفلونزا عام ١٩١٨م، والذي قتل ما يقدر بخمسين مليون شخص، و تلته الحرب العالمية الثانية التي قتلت قرابة ٨٠ مليون شخص، ثم ظهر مرض نقص المناعة البشرية والمعروف بالإيدز عام ١٩٧٦ والذي أهلك لحد اليوم ٣٦ مليون إنسان.


ورغم كل هذه النكسات، تمكنت عبقرية الإنسان من بناء مؤسسات عالمية ودولية تعني بسلامة البشرية وقدرتها على الثبات والبقاء، فقد طورت العقاقير التي أبادت ٩٩٪ من الأمراض الفتاكة، بل بعبقرية الإنسان شيّدت تحالفات أممية تعني بحقوق الانسان والحيوان والجماد، زد على ذلك اكتشافه للشبكة العنكبوتية وظهور اختراعات نوعية من فيسبوك إلى يوتيوب وواتسآب وتويتر، وبذلك تضاعف متوسط أعمار الناس عالمياً، وأصبح معظم البشرية مواطنين بعدما كانوا رعايا للملوك والسلاطين.


يجب أن يكون ما بعد كورونا خيراً مما قبله، فقد برهنت عبقرية الإنسان على القدرة الفائقة على تحويل النقمات إلى نعمات، ولن تكون نكسة كورونا حالة استثناء.


 

فيروس كورونا - ترامب - عبقرية الإنسان - النكسات - الدولة - الإنسان - أمباي بشير لو -


bottom of page