تسعة أعوام قد مرت على ثورة يناير، التي غيرت وجه مصر ووضعت حداً فاصلاً بين تاريخ قديم كُتِب ومات قبلها وتاريخ جديد ما زال في طور التكوين، بينما نكتب تفاصيله بإيادينا. كانت الثورة المصرية أخت لسلسلة من الثورات الشعبية التي ضربت المنطقة العربية في العام ٢٠١١، فأصاب بعضها أهدافه بدقة ثم تلاشى أثره، بينما ضل بعضها الهدف فأصاب نفسه وتدمّر ودمّر كل ما حوله. فعلت هذه الثورات بجيلي ما لم يفعله أي حدث أخر في كل الأجيال التي سبقتنا، فقد كانت هي الطريقة التي أعلنَا بها عن أنفسنا وعن وجودنا، وتمكنَا بها من هدم أنظمة ديكتاتورية تجاوز أعمارها أعمارنا الصغيرة نسبياً في ذاك الوقت.
لكن الأمر الأعظم من معايشة تجربة الثورة نفسها، كان ما تعلمناه منها ومن الأحداث التي وقعت بعدها، فمثلما هدمت الثورة حاجز الخوف الذي ملأ قلوب المصريين على مدار عقود، رفعت الأحداث الجسام التي تلتها غشاوة من السذاجة كانت تغلف عقولنا المتفائلة، التي لم تكن تتوقع، بخبرتها السياسية المحدودة جداً، أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تقف على باب ثورتنا متربصة لاختطافها ووأدها، من أجل خلق فراغ سياسي يمكن الجماعة الإرهابية من الصعود نحو أعلى نقطة في السلطة السياسية، وتحويل مصر لعاصمة خلافة تقود الجماعة العالم من خلالها، تحت لواء التعاليم الإرهابية لأبيهم المؤسس حسن البنا والنظريات المختلة لمفكرهم الأعظم سيد قطب، والفتاوى السادية لشيخهم الأكبر يوسف القرضاوي.
غير أنه من حسن طالع الشعب المصري أن كان له جيش يحبه ويحميه، ينحاز له لا لمن يجلس على كرسي الرئيس، يدافع عنه وعن إرادته بقدر ما يدافع عن أمنه واستقراره، ولولاه ما تمكن الشعب من إنقاذ مصر من براثن جماعة الإخوان التي اختطفت الوطن في غفلة أو لنقل “نشوة” الثورة.
خضنا، جيشاً وشعباً، بعد هذه المرحلة الصعبة، حروباً سياسية أكثر ضراوة على المستويين الداخلي والدولي، في معركة عنوانها “البقاء” نجحت مصر فيها باستعادة الأمن والاستقرار ومقاومة حالة الفوضى التي أراد الإخوان، ومن هم وراءهم من قوى دولية معادية، فرضها علينا، وانتهاء باختيار ابن مصر المخلص، المشير عبد الفتاح السيسي، الذي كان جزءاً أصيلاً من نجاح ثورة يناير ضد مبارك في ٢٠١١ وثورة يونيو ضد الإخوان في ٢٠١٣، لتبدأ مصر من بعدها معركة عنوانها “البناء” نجحت خلالها مصر، في وقت قياسي، في تحقيق تطور هائل على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً بين الطبقات المهمشة والأكثر فقراً.
وبينما نحن اليوم على أعتاب عقد جديد في مسيرة الزمن، وبعد تسع سنوات من ثورة شعبية كان على قمة أولوياتها بناء الدولة الديمقراطية، آن الأوان لمصر، الدولة والشعب، أن يدشن معركته الجديدة تحت عنوان “الإصلاح”، والمقصود هنا الإصلاح السياسي الشامل الذي سيمكن مصر من إدخال تعديلات ضرورية على النظام السياسي العام في مصر، تتعلق بالحوكمة والديمقراطية والتنمية السياسية، وهو أمر تحدث الرئيس السيسي عن ضرورة إرساءه كضمانة لا غنى عنها لاستقرار الدولة وأمنها، في مواجهة تحديات المستقبل المتوقعة وغير المتوقعة.
ولن ينسى التاريخ للرئيس السيسي تحركاته المشهودة نحو تحقيق هذا الإصلاح، بقدر ما تتيح له صلاحياته والظروف السياسية والأمنية التي تمر بها مصر، وأيضاً بقدر جاهزية الشعب والدولة لتحمل ما تيسر تفعيله من تلك الإصلاحات، ومنها تمكين المرأة في المناصب السياسية والتشريعية العليا، وتأهيل الشباب وتدريبهم على القيادة وإتاحة الفرصة لهم لتولي مناصب مؤثرة في نظام الحكم كوزراء ونواب برلمان ونواب محافظين، لكن لا يمكن أن تستمر القيادة السياسية للدولة، أو رئيس الدولة، في بناء الدولة الديمقراطية وحده، يجب أن يكون في مصر أحزاب سياسية مؤثرة قادرة على إعانته نحو تحقيق هذا الهدف.
وربما هنا تكمن أكبر مشكلة سياسية تمر مصر بها حالياً، وهي المشكلة التي تعتبر عائق رئيسي نحو تحقيق أي تطور حقيقي نحو بناء الدولة الديمقراطية، آلا وهي حالة الفوضى التي تمر بها الأحزاب السياسية في مصر، ما بين:
• أحزاب قديمة لا يعرف الجيل الحالي إلا ما يراه عنها في أفلام الأبيض والأسود القديمة،
• وأحزاب “الرجل الواحد” التي نشأت في أواخر عهد مبارك لتلميع شخصيات سياسية معارضة آنذاك دون أن يكون لها أي أجندة أو برنامج يتعلق بمستقبل الوطن أو المواطن،
• وأحزاب حديثة نشأت في خضم النشوة السياسية التي أصابت الناس بعد ثورة يناير، ويتجاوز عددها المائة حزب لكنهم كغثاء السيل لا نفع يرجى منهم ولا نشاط يذكر لهم،
• بالإضافة إلى عدد من الأحزاب الدينية التي ازدهرت تحت حكم الإخوان، وما زالت تعمل حتى الآن برغم عدم دستورية أو قانونية أوضاعها،
• وأخيراً عدد محدود جداً لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الأحزاب التي ظهرت في السنوات القليلة الأخيرة والتي تعمل بشكل موسمي، أي في مواسم الانتخابات فقط، ونشاطها يشبه أنشطة الجمعيات الخيرية، دون أن يكون لهم أي دور سياسي حقيقي في اكتشاف وتأهيل الكوادر السياسية والتأثير في الحياة العامة، أو حتى إتاحة مساحة صحية لقوى المعارضة للتعبير عن أنفسهم بشكل إيجابي يثري الحياة السياسية ويطور من منظومة الحكم في مصر للأفضل، بعيداً عن أسلوب المكايدات السياسية المنفر، والذي تمارسه المعارضة منذ زمن مبارك.
وقد وجه الرئيس السيسي، ضمن كلمة له الشهر الماضي، بضرورة بحث الأحزاب فيما بينها عن طريقة للسيطرة على حالة الفوضى تلك، واقترح سيادته فكرة دمج الأحزاب الصغيرة والمتناثرة في كيانات حزبية محدودة العدد لكن كبيرة الحجم والتأثير، كخطوة أولى نحو التعجيل بعملية الإصلاح السياسي في مصر، وهو الأمر الذي تلقفه قيادات حزب الوفد بالبرلمان وبدأوا من خلاله سلسلة مناقشات تهدف لتحقيق هذا الدمج، ومن يعرف كيف تعمل الأحزاب في مصر، سيعرف أن مسألة الدمج هذه هي مسألة في غاية الصعوبة، وسوف تتطلب الكثير من الجهد والمفاوضات، لكن لو نجحت ستكون بمثابة إعلان بداية جديدة على خلفية سليمة وقوية لمنظومة العمل السياسي في مصر بشكل عام، خصوصاً مع كل الاستحقاقات الانتخابية المنتظرة في مصر خلال الخمسة أعوام القادمة على مستوى حكم المحليات والبرلمان بغرفتيه، والانتخابات الرئاسية أيضاً.
داليا زيادة - مدير المركز المصري لدراسات الديمقراطية الحرة
#مصر_٢٠٢٠ الإصلاح الديمقراطي الأحزاب السياسية ثورة يناير الربيع العربي
Comments