قبل أحد عشر عامًا، في الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، خضعت مصر لعملية جراحية عاجلة لتنظيف دمها السياسي الذي عكرته عقود من الفساد وسوء استغلال السلطة، إذ نجح الناشطون الليبراليون الشباب، الذين كانت أعمارهم آنذاك أقل من الثلاثين سنة التي قضاها نظام مبارك في الحكم، في تنظيم ثورة سلمية أطاحت بالنظام المستبد. إلا أن النصر السريع وغير المتوقع، جعلهم سرعان ما يغادروا الميدان ليحتله أهل الشر وينسبون لأنفسهم ما حققه الشباب من إنجاز أبهر العالم، وألهم أقرانهم في بلدان عربية أخرى.
كنا نظن، بسذاجة سياسية مشهودة، آنذاك، أن المعجزة التي مكنتنا من الإطاحة بنظام مبارك، في ثمانية عشر يومًا فقط، ستمكننا من بناء دولة ديمقراطية ليبرالية في غضون عام أو أقل. لكن بعد ثمانية عشر شهرًا، استيقظنا من أحلامنا المتفائلة على الصدمة الكبيرة المتمثلة في صعود الإخوان المسلمين إلى كرسي الرئاسة وصعود السلفيين المتشددين دينياً إلى مقاعد البرلمان كمشرعين. حاولنا بكل ما استطعنا من قوة أن نفيق من هذا الكابوس، وفي أقل من عام نجحنا. إلا أن العودة إلى مسار الديمقراطية، بعد إزاحة الإسلاميين من السلطة، في يوليو ٢٠١٣، لم يكن بالأمر اليسير.
لم تتقبل جماعة الإخوان المسلمين الهزيمة السياسية التي واجهوها، في ٢٠١٣، بنفس الطريقة التي تقبلها نظام مبارك قبلهم بعامين، وأقسم قادة الإخوان علانيةً على أن ينتقموا من الشعب الذي ثار ضدهم، حتى لو تطلب الأمر ممارسة أقصى درجات العنف ضد الجميع وإراقة دماء المدنيين الأبرياء. منذ تاريخ الثورة ضد الإخوان في ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وحتى نهاية عام ٢٠١٥، قام عناصر جماعة الإخوان والمتعاطفين معهم، خصوصاً من القواعد المتأثرة بخطاب السلفيين المتطرف، باستهداف المدنيين الأبرياء والعسكريين ورجال الشرطة ومؤسسات الدولة بهدف خلق حالة من الفوضى العارمة، في محاولة لخلق سيناريو مشابه لما حدث في معظم دول الربيع العربي، حيث تسقط الدولة الوطنية ويحل محلها الإخوان إما عن طريق حكومة مؤقتة أو حكومة موازية.
لحسن الحظ، لم تكن الدولة المصرية، رغم عثرتها، بالضعف الذي يسمح بإشاعة تلك الفوضى العارمة أو إحداث انقسامات شعبية شديدة تمهد الطريق لنجاح مخطط الإخوان، فقد ساهمت الخبرة السياسية لدى القوات المسلحة المصرية، فضلاً على قوة وتماسك بناء الجيش، في إفشال هذه المؤامرة الشريرة للإسلاميين السياسيين، في مرحلة مبكرة جدًا. لكن منذ ذلك الحين، ظل حلم بناء دولة ديمقراطية ليبرالية بالمعايير التي كان يحلم بها شباب ثورة يناير، أمل بعيد يزداد الطريق إليه صعوبة وتعقيداً كلما مر الوقت، فقد أعطت القيادة السياسية للرئيس السيسي، الذي تولى الحكم في المرحلة الانتقالية بالغة الصعوبة التي أعقبت سقوط الإخوان، الأولوية لاستعادة الأمن والاستقرار في مصر، أولاً من خلال القضاء على التنظيمات الدينية المتطرفة وجماعات الإسلام السياسي، وإزالة أثار خطابهم المتطرف على القواعد الشعبية، وثانياً من خلال إطلاق مجموعة واسعة من مشاريع الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي.
من باب الإنصاف، علينا أن نعلم أنه كان من المستحيل التسرع في بناء دولة ديمقراطية ليبرالية، في تلك المرحلة المعقدة أمنياً وسياسياً، في بلد يعاني من ضعف سياسي وكساد اقتصادي وإرث عقود من الفساد الإداري، فضلاً على انعدام الأمن، وهي المكونات الرئيسية لإقامة دولة من الأساس، فما بالك بإقامة دولة ديمقراطية ليبرالية، ولنا في دول مثل نيجيريا عبرة، فهي أحد الأمثلة القريبة التي تثبت خطورة الاندفاع نحو الممارسة الديمقراطية على النمط الغربي، قبل إرساء الأساس المناسب لدولة مستقرة، من خلال تثبيت قواعد الاقتصاد أولاً، وتحسين حالة الأمن، والتنمية الاجتماعية.
أما الآن، وقد استقرت الحالة الأمنية في مصر، وبدأت مشاريع الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، التي يقودها الرئيس السيسي بإخلاص شديد منذ سبع سنوات، تؤتي ثمارها وتغير وجه مصر الحزين الذي لم نكن نعرف غيره منذ ما قبل ثورة يناير، فقد حان الوقت للقيادة السياسية أن تنظر في اتخاذ خطوات فعلية نحو تحقيق حلم بناء الدولة الديمقراطية الليبرالية الذي ألهم ثورة شعبية قبل عقد من الزمن، والذي يتمثل في خلق منظومة سياسية متناسقة ومتكاملة رغم ما فيها من تنوع واختلاف، تعتمد على التعدد الحزبي، وتشجع التنوع الفكري والسياسي، وترحب بتكوين أحزاب معارضة حقيقية، تستطيع أن تشارك بفاعلية في عملية التبادل السلمي لكافة درجات السلطة في الدولة التي يجب أن تحترم الحريات السياسية والمدنية باعتبارها جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان.
إن أحد أهم الدروس المستفادة من ثورة ٢٠١١ هي أن الدولة التي تفتقر إلى منظومة سياسية متنوعة ومتناسقة، تعبر عن كافة الآراء والتوجهات، بما في ذلك الآراء المعارضة للتيار السياسي السائد، وتتنافس فيما بينها تحت سيادة الدستور والقانون، غالباً ما تكون فريسة سهلة لأهل الشر، من الجماعات المتطرفة والمتسلقين على السياسة باسم الدين، والمتسلقين على الدين عبر سلم السياسة.
يوجد في مصر، حالياً، أكثر من مائة حزب سياسي مسجل لدى لجنة شئون الأحزاب، لكن معظمها غير فعال على المستوى الشعبي أو السياسي، وحتى الأحزاب المعروفة والمؤثرة شعبياً، ليست سوى صدى صوت للدولة، وتحركات القيادة السياسية، وكثير منها يستغل اسم الرئيسي السيسي ليروج لنفسه بين العوام الذين يحبون الرئيس. في المقابل، لا يوجد في مصر حتى اليوم، أي أحزاب معارضة، حقيقية بما يكفي وقوية بما يكفي، تستطيع استيعاب الشباب الذين يتبنون آراء أو مواقف سياسية تتعارض مع التيار السائد أو حتى مع القيادة السياسية الحالية، مما يجعل هؤلاء الشباب، خصوصاً الأصغر سناً والأحدث عهداً بالنشاط السياسي، فريسة سهلة لأهل الشر، لا سيما جماعات الإسلام السياسي.
من هذا المنطلق، فإن إعطاء الأولوية للتطوير الديمقراطي من خلال بناء منظومة سياسية تشجع التنوع السياسي والحزبي، واستيعاب وقبول، بل وتشجيع وجود معارضة سياسية، أصبح ضرورة لضمان استكمال الصورة الجميلة لمصر في ظل الجمهورية الجديدة، وضمان استمرار نجاحها وتطورها لأجيال كثيرة قادمة.
اقرأه أيضاً على المدار
コメント