سأخبرك بقصة تبدو مألوفة. يوم الثلاثاء ٢٣ مارس، أجرت إسرائيل الانتخابات البرلمانية على مقاعد الكنيست. جاءت الانتخابات في أعقاب انهيار الحكومة الائتلافية بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وتعتبر هذه الانتخابات، قياساً على نواحٍ عديدة، بمثابة استفتاء على ما إذا كان الشعب الإسرائيلي لا يزال يوافق على نتنياهو بعد ١٢ عامًا قضاها في سدة السلطة. لكن بالرغم من حصول حزب الليكود بزعامة نتنياهو على أكبر عدد من الأصوات، سيتطلب الأمر بعض التحركات الإضافية لاكتمال تشكيل حكومة ائتلافية.
هذه القصة أصبحت مألوفة بشكل مفرط لدى المواطنين الإسرائيليين، الذين ذهبوا للتصويت للمرة الرابعة على نفس المقاعد في غضون عامين فقط، ولنفس الأسباب التي دفعتهم للتصويت سابقاً. في إسرائيل، بدلاً من التصويت لمرشحين محددين، يصوت المواطنون لدعم حزب معين في الحصول على عدد من المقاعد في الكنيست. لم يحدث أبداً من قبل، أن فاز أي حزب بأغلبية المقاعد، لذا يتم قيادة الكنيست بواسطة ائتلاف من أحزاب متعددة تشكل الأغلبية وتختار الزعامة. يقول الزميل المساعد في تشاتام هاوس، يوسي ميكيلبرج: "لا أحد يفوز في الانتخابات الإسرائيلية. بشكل جمعي، لا يثق الناخبون الإسرائيليون في مرشح واحد بعينه." من الناحية النظرية، يجب أن يفرض النظام الانتخابي هذا حالة من التعاون السياسي الإيجابي بين الأيديولوجيات السياسية المختلفة، لكن تطبيقاً على أرض الواقع نجد أن الانتخابات الأخيرة أثبتت عكس ذلك.
منذ تسعة أشهر فقط، ظهرت حكومة ائتلافية، بشكل غير متوقع، بين نتنياهو ومنافسه السياسي بنيامين غانتس بعد سلسلة من عمليات التصويت غير الحاسمة. شارك غانتس في الانتخابات الثلاثة التي عقدت في ٢٠١٩ و٢٠٢٠، واعتمدت حملته على مناهضة نتنياهو بالأساس، وبذلك حصل على أصوات أكثر من أي حزب آخر سبق وتحدى حزب الليكود. ولم يكن مستغرباً أن التحالف كان هشًا للغاية، حيث لم يتمكن حزب الليكود وحزب أزرق أبيض الذي يتزعمه غانتس من الاتفاق على معظم القضايا الحساسة، ومنها مسألة الميزانية، التي كانت سبب في حل الكنيست، والدعوة للانتخابات الحالية، بعد أن فشل الكنيست في اعتماد موازنة الدولة بحلول تاريخ ٢٣ ديسمبر وفقاً للدستور.
من المثير النظر إلى هذه الانتخابات الأخيرة كاستفتاء لموافقة المواطنين الإسرائيليين على نتنياهو كرئيس للوزراء، وهو الذي أثار الكثير من الجدل وخرجت ضده المظاهرات الشعبية في السنوات الأخيرة، حيث وصل معدل البطالة في إسرائيل إلى ١٥٪، وهناك ادعاءات عديدة بانتشار الرشوة والاحتيال وانعدام الثقة داخل الحكومة، بما في ذلك الادعاءات التي تقول بأن نتنياهو نفسه قد قبل هدايا بقيمة ٣٠٠ ألف دولار من رجال الأعمال مقابل الحصول على امتيازات خاصة خارج إطار القانون، وأنه خفف اللوائح المقيدة لبعض وسائل الإعلام مقابل الوعد بتقديم تغطية إيجابية لأنشطة الحكومة، فضلاً على تعامل الحكومة بشكل ضعيف وسيء نسبيًا مع أزمة وباء كورونا. مؤخراً، قبل ثلاثة أيام فقط من الانتخابات، احتشدت مجموعة قوامها نحو ٢٠ ألف شخص بالقرب من مقر إقامة نتنياهو في القدس.
لماذا إذن لا يزال الليكود يحصل على أكبر عدد من الأصوات؟ أحد الأسباب هو أنه على الرغم من وجود العديد من الانتقادات الموجهة إلى فشل فترة ولايته الأخيرة، قام نتنياهو ببعض الأشياء التي تحظى بشعبية لدى قطاع كبير من الإسرائيليين. مثلاً، تم الإشادة بنجاح نتنياهو في التطبيع مع العديد من الدول العربية مثل الإمارات والسودان والبحرين. بالإضافة إلى ذلك كانت حكومة نتنياهو سريعة جداً في تقديم أقوى برامج اللقاحات ضد فيروس كورونا في العالم، وربما هذا فض انتباه الناس عن العثرات السابقة للحكومة في إدارة أزمة الوباء. عامل آخر يجب مراعاته في فهم شعبية نتنياهو، وهو موقف نتنياهو المحافظ من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يظل بالنسبة للعديد من الإسرائيليين أهم قضية سياسية واجتماعية. كما يشير ميتشل باراك، الرئيس التنفيذي لأبحاث كيفون العالمية، إلى سبب آخر لاستمرار نتنياهو في الحفاظ على الكثير من التأييد الشعبي، حتى بعد تحالفاته الفاشلة، حيث يقول أن حكم نتنياهو يشبه علاقة الزواج المتعثرة، والتي يكون فيها "من الأفضل أن تبقى في إطار الزواج الغير سعيد بدلاً من الخروج منه والبحث عن شخص جديد لا تعرف ما تتوقع منه بالضبط."
إذن، ما هي الخطوة التالية للحكومة الإسرائيلية؟ في الوقت الحالي، لا اليمين بقيادة نتنياهو ولا المعارضة اليسارية بقيادة يائير لابيد من حزب يش عتيد الوسطي لديهم أصوات كافية من الأحزاب الأخرى لتشكيل حكومة ائتلافية، ومن ثم يبدو أن مفتاح تشكيل الائتلاف يقع في يد الحزب العربي الإسلامي "القائمة العربية الموحدة" (والذي يشار إليه عادة بالاسم العبري رآم). يقود الحزب منصور عباس، وسبق وحصل الحزب بشكل فاجأ الجميع على أربع مقاعد في البرلمان. في حين أن الأحزاب العربية كانت تقليديًا جزءًا من تيار أقصى اليسار، إلا أن انفتاح عباس وحزبه على العمل مع كل الأطياف السياسية في إسرائيل منح الحزب الصغير دفعة هائلة في المشهد السياسي. التقى عباس بالعديد من أعضاء الليكود وأعرب عن استعداده للعمل معهم، لكن أحزابًا مثل حزب "الصهيونية الدينية" قد أعربت عن عدم استعدادها للعمل مع الأحزاب العربية، وعارضت بشكل خاص وجود حزب عربي كجزء من ائتلافها الحكومي المقترح.
من الصعب تقييم ما يعنيه صعود القائمة العربية الموحدة بالنسبة لمستقبل التمثيل العربي في الكنيست، فقد أدى الانقسام بين رآم والقائمة المشتركة للأحزاب اليسارية إلى عزوف الكثير من العرب الإسرائيليين عن المشاركة في الانتخابات، مما أدى إلى انخفاض نسبة المشاركة إلى نحو ١٥٪. من ناحية أخرى، فإن وضع رآم الحالي ينبيء بأنه هو أقرب حزب عربي للانضمام للحكومة الائتلافية، وهذه ستكون سابقة في تاريخ البلاد. حسبما أوضح المراسل الإسرائيلي عيران سينغر، فإن نتنياهو "أعطى الضوء الأخضر للتحدث مع الأطراف العربية" في الانتخابات الإسرائيلية.
ربما ستشهد هذه الانتخابات صناعة حدث تاريخي بانضمام حزب عربي إلى الائتلاف، ويصبح لدى المواطنين العرب في إسرائيل، والذي يبلغ عددهم خمس السكان، ممثلين لهم في الحكومة. لكن كما تبدو الأمور، فإن النتيجة الأكثر ترجيحًا هي أن إسرائيل تتجه إلى انتخابات خامسة في غضون الست أشهر القادمة، وهو احتمال مثير للقلق، لأن الاستمرار في فشل النظام الانتخابي بهذا الشكل قد يفقد المواطنين ثقتهم فيه، وفي الممارسة الديمقراطية، وفي الحكومة نفسها، خصوصاً أن الكنيست أصبح حتى غير قادر على مواصلة عمله لأكثر من عام دون أن تحدث أمور تستدعي حله، والعودة من جديد للانتخابات، مما يوحي بأن النظام يتعمد إفشال نفسه وتقليص المشاركة الانتخابية. لقد شهدت انتخابات مارس ٢٠٢١ أقل نسبة مشاركة للناخبين منذ عام ٢٠٠٩. هل من المبالغة القول إن المواطنين قد يدعمون سلطة استبدادية إذا كان ذلك يعني بعض الاستقرار في الدولة ونظام الحكم؟ من الواضح أن هناك حاجة إلى عمل تغيرات جذرية في النظام السياسي ككل لكسر حالة الجمود هذه، لكن يبقى السؤال الأهم حول ما هي هذه التغيرات بالضبط، وكيف ستؤثر في مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية.
Comments