top of page

السبب الرئيسي في تعسر ملف حقوق الإنسان في مصر



لا أحد يستطيع أن يدعي أن مصر بلد مثالي عندما يتعلق الأمر بسجل حقوق الإنسان. في مصر، ضعف الاهتمام بحقوق الإنسان، وخاصة الحقوق السياسية والمدنية، مشكلة قديمة قدم تاريخ مصر الحديث. رغم ذلك، سيكون من الظلم للغاية الادعاء بأن القيادة السياسية الحالية للرئيس السيسي لم تثبت عمليًا، على مدى السنوات الست الماضية، صدقها في تغيير هذا الواقع القبيح وتحسين أداء الدولة في هذا الملف الشائك. إذاً، لماذا لا تزال مصر متعسرة في مسألة تحسين سجلها الحقوقي، على الرغم من توافر الإرادة السياسية للدولة والجهود الملموسة للرئيس؟ هناك سبب رئيسي يمكنه أن يفسر لنا وجود هذه الفجوة بين الجهود الرئاسية والنتائج المتحققة فيما يتعلق بتحسين سجل مصر في مجال حقوق الإنسان.


لنتفق أولاً أنه ليس ثمة دولة على وجه الكوكب قد نجحت في إدراك أو ضمان كل الحقوق المذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو المواثيق الأممية الأخرى ذات الصلة. في الحقيقة، عدد الدول التي تمكنت من تحقيق تقدم تحسد عليه في مجال حقوق الإنسان لا يكاد يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهي دول تتمتع باستقرار سياسي طويل الأمد ومحدودية في التهديدات الأمنية التي تواجهها، بما أتاح لها المجال لبذل جهد أكبر في إحراز تقدم على مستوى أجندة حقوق الإنسان. بالمقارنة، وجدت أغلب دول العالم، ومنها مصر، التي عانت من أحداث متكررة من الاضطرابات السياسية والتهديدات الأمنية الداخلية والخارجية، نفسها مضطرة لأن تضع العمل على قضايا حقوق الإنسان في المرتبة الثانية أو الثالثة. لكن يجب أن نذكر أن هذا التوجه قد تغير كثيراً في السنوات الأخيرة، منذ ثورات الربيع العربي.


تكافح الدولة المصرية، منذ سنوات، مع أوجه القصور المزمنة في ملف حقوق الإنسان، والتي ورثنا أغلبها من حقبة طويلة من الفساد والاستبداد في عهد مبارك. ولا تنكر القيادة المصرية الحالية هذه الحقيقة، وتعمل بإخلاص، منذ ست سنوات، على تحسين أوضاع حقوق الإنسان وسط تحديات سياسية وأمنية لا حصر لها. فرغم التأخير في إصلاح الحقوق المدنية والسياسية، شهدت مصر قفزة في تحسين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بفضل التعديلات التشريعية الجديدة ومشاريع التنمية الوطنية الضخمة التي تستهدف تحسين الأوضاع الصحية والإسكانية والأمنية، فضلاً على حماية الحريات الدينية وتمكين المرأة في مختلف أروقة الحياة العامة.


فيما يخص الحقوق المدنية والسياسية، اتخذ الرئيس السيسي خطوة تاريخية، في منتصف شهر سبتمبر، بإطلاق "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" وإعلان عام ٢٠٢٢ "عام المجتمع المدني". إن "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" هي أول وثيقة من نوعها في تاريخ مصر تهدف إلى مساعدة الدولة المصرية على تحسين سجلها وممارساتها في مجال حقوق الإنسان. الاستراتيجية مبنية على أربع ركائز أساسية: النهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، النهوض بحقوق المرأة والطفل، النهوض بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والشباب وكبار السن، ونشر ثقافة حقوق الإنسان بين الجماهير. تبدو الاستراتيجية مثالية جداً وواعدة جداً على الورق، لكن هناك بعض الشكوك حول ما إذا كان بإمكان الدولة تفعيلها على الأرض خلال السنوات القليلة القادمة.


يقودنا هذا إلى السؤال الرئيسي في هذا المقال حول سبب استمرار مصر في التعسر على طريق النهوض بحقوق الإنسان. إن العائق الحقيقي الذي يمنع مصر من إحراز تقدم ملموس في أجندة الحقوق المدنية والسياسية على وجه التحديد، ليس غياب الإرادة السياسية المخلصة للرئيس السيسي، كما كان الحال في أنظمة سابقة، ولكن يكمن جوهر المشكلة في الخيارات السيئة التي تتخذها الحكومة فيما يتعلق بالآليات المستخدمة والأفراد المكلفين بالتعامل مع الملف الحقوقي شديد التعقيد، ولعل التشكيل الجديد للمجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي تم الإعلان عن قبل أيام، هو أكبر دليل على ذلك.


الأسبوع الماضي، أعلن البرلمان المصري أسماء ٢٧ عضواً يشكلون الدورة الجديدة للمجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو الهيئة الأهم في الدولة المصرية المنوط بها إدارة ملف حقوق الإنسان والتعاون مع الدولة على تحقيق تقدم فيه، بما يتوافق مع المبادئ والمعاهدات الأممية ذات الصلة. مع الأسف، هناك عدد قليل فقط من الأسماء المختارة مناسب لتولي تلك المهمة، نظراً لخبرتهم المهنية في حقل المجتمع المدني وحقوق الإنسان. على سبيل المثال، يعد اختيار امرأة قائدة قوية مثل السفيرة مشيرة خطاب لرئاسة المجلس القومي لحقوق الإنسان خيارًا رائعًا، لما لديها من تاريخ طويل في النضال من أجل حقوق المرأة وحقوق الإنسان. حتى عندما شغلت خطاب منصب وزيرة في الحكومات السابقة، لم تتخلى عن العمل بروح الناشطة الحقوقية من أجل المواطن المصري. هذا فضلاً على ما تتمتع به من احترام وتقدير دولي.


في تناقض صادم مع ذلك، تجد أن عدد كبير من الأعضاء المختارين للدورة الجديدة للمجلس القومي لحقوق الإنسان هم أشخاص غير مؤهلين لشغل المنصب، إذ أن بعضهم لم يعمل مسبقاً في منظمة حقوقية وليس لديه سابق خبرة في هذا المجال، ولا نعرف ما هو المعيار الذي تم اختيارهم على أساسه، أما البعض الآخر فمعروف بعدائه السياسي المعلن للدولة ورئيسها. ومنهم من سبق واستغل الملف الحقوقي للضغط على الدولة المصرية في الخارج. وبعضهم سبق وتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، المصنفة كتنظيم إرهابي في مصر، وبعضهم تعاون من جماعات يسارية على تعطيل الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٨، لأن الشعب كان منحازاً بقوة لإعادة انتخاب السيسي. حتى أن أحدهم تم إسقاط عضويته في البرلمان السابق، عام ٢٠١٧، بسبب نقله تقارير كاذبة شوهت البرلمان والدولة في أعين حلفاء مصر، في أوروبا والولايات المتحدة، بحسب ما ذكره البيان الصادر عن البرلمان آنذاك.


كل هذا يجعلنا نسأل كيف يمكن للأسماء المشار إليها، في ظل عداءهم السياسي المعلن للدولة والرئيس، أن يعملوا مع القيادة السياسية ومع الحكومة لتحسين ملف حقوق الإنسان. بالتأكيد، سيكونون هم أكبر عقبة في ماكينة المجلس القومي لحقوق الإنسان، وسوف يتسببون بشكل مباشر في تعطيل عمل الأعضاء الأكفاء المخلصين، وقد سبق ورأينا سيناريو مماثل لذلك في الدورة الماضية.


باختصار، لكي تنجح الدولة المصرية في تحسين أجندتها الخاصة بحقوق الإنسان بشكل حقيقي، يجب اختيار عاملين مؤهلين للقيام بهذه المهمة. لقد أثبت استقدام غير المؤهلين لقيادة هذا الملف المعقد، تحت ادعاء ضرورة عمل توازنات سياسية، خصوصاً في المجلس القومي لحقوق الإنسان، أنه أمر يخلف ضرر كبير ليس فقط على الملف الحقوقي ولكن على الدولة الوطنية نفسها. عندي أمل أن يراجع الرئيس السيسي الأسماء التي اختارها البرلمان في التشكيل الجديد للمجلس القومي لحقوق الإنسان قبل الموافقة عليها رسمياً. هذا أمر مهم جدًا لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي ولضمان نجاح مستقبل الملف الحقوقي في مصر، بشكل يليق بالجمهورية الجديدة التي بناها الرئيس السيسي من بين ركام الدمار الذي سبق وساهم بعض من هؤلاء في صناعته.


اقرأه أيضاً على ليفانت

bottom of page