يبدو أن العالم قد بدأ يستفيق من الصدمة وحالة الإنكار التي صاحبت سكان الكرة الأرضية طوال الأشهر الثلاث الماضية، شاهدنا فيها بأعيننا كائن مجهري، في صورة فيروس يصيب الجهاز التنفسي للإنسان، يفتك بالبشر في كل حدب وصوب، بينما يقف الإنسان، بكل ما يملك من علوم وجيوش وحضارة، عاجزاً عن مقاومة انتشار الفيروس أو إيجاد مركب دوائي مناسب للقضاء عليه أو حتى علاج أثاره المدمرة على جسم الإنسان، ولم تنجح قوة عظمى أو صغرى على وجه الأرض، حتى الآن، في توفير ما يلزم من وسائل لصد العدوان الشرس من الطبيعة الغاضبة تجاهنا، أو مجرد التكهن بمدى استمرار الأزمة أو كيفية احتواء أثارها الاقتصادية والسياسية لحين تنجلي من تلقاء نفسها. وما زاد من قسوة الأزمة وصعوبة مواجهتها هو أن الفيروس قد هاجمنا بطريقة "فرّق تسد"، فبالرغم من أن الهم الذي تتشاركه البشرية اليوم، في مواجهة فيروس كورونا المستجد، واحداً، إلا أن دول العالم قد وجدت نفسها مجبرة على تطبيق حالة من الانعزال والانفصال فيما بينها، في محاولة – لم تنجح حتى الآن – لاحتواء سرعة انتشار الفيروس بين الأفراد، وبالتالي أصبحت كل دولة مضطرة لمواجهة المرض وانتشاره ومعالجة أثاره وحدها، وأصبحت حياة الأفراد مرهونة بحكمة وقدرات حكومة الدولة التي ينتمون إليها، وأصبحت الأزمات الاقتصادية والسياسية المترتبة على الأزمة البيولوجية العالمية هي سلسلة لا نهائية من الأزمات المحلية، وصارت كل دولة مضطرة للتعامل مع أزماتها بشكل منفصل عن النظام العالمي أو حتى المحيط الإقليمي الذي تقع فيه. وهذا يعني أنه وعلى عكس الأزمات الكبرى التي مر بها العالم وغيرت من مساره الجغرافي والتاريخي، كما حدث في أثناء حقبة الحروب العالمية الأولى والثانية، أو في أعقاب ثورات الربيع العربي كمثال قريب، فإن طبيعة الأزمة العالمية التي خلفها فيروس كورونا، لن تحدث تغييراً عالمياً شاملاً كما نظن، وإنما ستحدث تغيرات محلية من شأنها تغيير الخريطة السياسية وأنظمة الحكم في أغلب الدول التي طالتها الأزمة. لقد وضعت أزمة انتشار فيروس كورونا الدول والحكومات في اختبار شديد الصعوبة أمام مواطنيها، فلم تعد التحالفات الدولية ولا العلاقات الخارجية لأي دولة، مهما بلغت من متانة وصلة، قادرة على انقاذها من هذا الاختبار، وأصبح المعيار الوحيد لنجاح أي دولة في مواجهة هذه الأزمة البيولوجية المرعبة هو ثقة المواطن في الدولة وقدرة الدولة على تحمل الهزات الاقتصادية والسياسية المتوقع أن تواجهها على المدى الطويل. والمفارقة الغريبة هنا هو أن الدول القادرة على مواجهة أزمة انتشار الفيروس حتى الآن هي الدول البعيدة تماماً عن ممارسة الحكم الديمقراطي، حتى أن دولة ديمقراطية عظمى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، قد لجأت لتطبيق إجراءات ديكتاتورية تشبه ما يطبق في الدول ذات أنظمة الحكم الاشتراكي، في محاولة لإجبار القطاع الخاص على التجاوب مع احتياجات الدولة والانخراط بشكل إيجابي في رفع الأثار الاقتصادية للأزمة، ففي غضون ثلاثة أشهر فقط، فقد أكثر من ثلاثة ملايين مواطن أمريكي وظائفهم، مما دفع الرئيس ترامب لإعلان "قانون الإنتاج الدفاعي"، غير مهتماً بخطورته الكبيرة على مصداقية ومكانة أمريكا في العالم، فهذا القانون ينص على إجراءات ديكتاتورية يتم من خلالها تأميم الشركات التجارية الكبرى للعمل لصالح الدولة وتحت إمرتها، ويضع كل موارد وإمكانيات وميزانيات هذه الشركات تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية. وفي أوروبا، أرض الديمقراطية والحريات والمساواة والإخاء، أصبحت هذه القيم الإنسانية السامية مهددة بالرفض والازدراء، بعد أن فشل الاتحاد الأوروبي في مساندة بعض الدول التي عانت وما زالت تعاني من ويلات انتشار الفيروس، أمثال إسبانيا وإيطاليا، التي وصل تفشي الأزمة فيهما وعجز الدولة عن مواجهتها إلى درجة أن المستشفيات في إيطاليا مثلاً اضطرت لرفض استقبال الحالات الميؤوس منها وبعض كبار السن، في مشهد إنساني مؤلم. أما في شرقنا الأوسط الكبير، فالأمور ليست أقل سوءاً مما هي في أوروبا وأمريكا، خصوصاً مع كل المشكلات السياسية والأمنية التي تعاني منها المنطقة منذ سنوات، حتى أن لجنة "الإسكوا" التابعة للأمم المتحدة قد تكهنت، في تقرير أصدرته نهاية الشهر الماضي، بأن أكثر من ثمانية ملايين مواطن في البلدان العربية سوف يتحولون إلى فقراء بسبب أزمة فيروس كورونا، ومن المتوقع أن يزداد عدد الذين يعانون من نقص الغذاء في الدول العربية إلى حوالي مليوني شخص. لكن ربما تحمل بعض الإحصائيات أيضاً شيء من الأمل في انتهاء أزمات نخرت في عظام الشرق الأوسط لسنوات، ولم يكن لدينا أدنى أمل في أن تنقضي لولا ظهور فيروس كورونا، فقد حجمت الأزمة البيولوجية من أنشطة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، وأجبرت مثيري الفتن في المناطق المشتعلة بالحروب الأهلية على التواري والانتظار، كما استهدف الفيروس تدمير أكبر دولتين ممولتين وراعيتين للإرهاب في منطقتنا، وهما إيران وتركيا، ولعل صوت بداخلي يهمس لي بأن تربع إيران وتركيا على قمة الدول المتأثرة بانتشار فيروس كورونا في الشرق الأوسط، من حيث نسبة الإصابات، وكونهما الأكثر تضرراً اقتصادياً وسياسياً من الأزمة، ليس من قبيل الصدفة، بل هو درجة من درجات العدل الإلهي الذي سيقوض نفوذ تركيا وإيران ويضع حداً لم يقومون به من عبث بمقدرات منطقتنا، حتى أجل غير مسمى.
فيروس كورونا - الديمقراطية - الليبرالية - الاتحاد الأوروبي - أمريكا - قانون الانتاج الدفاعي - داليا زيادة - موت الديمقراطية
Comentarios