اضطرت الحكومة المصرية في الفترة الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة في سبيل تجاوز العاصفة التي ضربت الاقتصاد المحلي نتيجة الصدام العالمي الناتج عن حرب روسيا وأوكرانيا، لا سيما وأن تدهور الوضع الاقتصادي قد بدأ بالفعل في وضع قيادة الدولة تحت ضغط سياسي. أصبح الموضوع العام للسياسات الحكومية الجديدة في هذا الصدد هو إشراك مزيد من الأطراف من القطاع الخاص وجهات غير حكومية مثل شركات رواد الأعمال، والاتحادات التجارية ومنظمات المجتمع المدني من أجل مساعدة الحكومة على اجتياز الظروف الراهنة المعقدة.
يُعتقد أن هذا النهج الشامل سوف يعزز من صورة مصر لدى المنظمات الدولية والحكومات الحليفة، في الشرق والغرب، التي يمكنها أن تقدم لمصر مساعدة مالية تحتاج إليها بشدة للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها في الأعوام السبعة الماضية.
اتضحت تفاصيل الرؤية لكيفية تحقيق هذا الهدف في الكلمة التي ألقاها الرئيس السيسي في حفل الإفطار الرئاسي الذي أقيم في الأسبوع الأخير من إبريل (نيسان) الماضي وسط أول موجة من ارتفاع معدلات التضخم. ألقى حديثه ضوءا خاصا على قرارين مهمين- أحدهما سياسي والآخر اقتصادي. على الصعيد السياسي، اتُخذ قرار بإتاحة مساحة أكبر لأحزاب ونشطاء المعارضة عبر منح العفو لعدد من سجناء الرأي والتواصل مع المعارضة السياسية. وعلى الجانب الاقتصادي، أصدر الرئيس توجيهاته بوضع خارطة طريق متوسطة الأجل لانسحاب الدولة من المنافسة في السوق لصالح شركات القطاع الخاص، وأكد على دعوته السابقة بإدراج المشروعات التجارية التي تملكها القوات المسلحة في سوق الأوراق المالية لتصبح أسهمها متاحة للتداول بين المستثمرين المصريين والأجانب.
وبعد خطابه اللافت مباشرة، بدأت الرئاسة والأجهزة التابعة لها في إصدار قوائم بالسجناء السياسيين المطلوب العفو عنهم، والإعداد لحوار سياسي وطني. وبعد أسبوعين، وضع وزراء المجموعة الاقتصادية في الحكومة خارطة طريق تهدف إلى إحداث ثورة في النظام الاقتصادي المعطوب الذي ظلت مصر رهينة له على مدار سبعة عقود مضت. يُعتقد أن هذين المسارين المتوازيين الهادفين إلى تغييرات في النظامين السياسي والاقتصادي، إذا تما على نحو صحيح، فسوف يضعان مصر على الطريق الصحيح ليس بهدف اجتياز الفترة الراهنة من الأزمة الاقتصادية المزمنة، بل وأيضاً لوضع أساس مستقبل ديمقراطي في بلد يبدو فيه التحول الديمقراطي مهمة مستحيلة.
تراجع سيطرة الدولة
في السادس عشر من مايو (أيار)، عقد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مؤتمراً صحافياً لتقديم خطة الحكومة من أجل الانفتاح الاقتصادي. أظهر العرض الذي قدمه مدبولي بوضوح أن الحكومة المصرية أدركت أن النهج البالي في السيطرة المركزية على السوق لم يعد ناجحاً. فمهما وصل حجم قروض صندوق النقد الدولي أو الودائع السخية التي ترسلها دول الخليج الشقيقة، من المستحيل على الحكومة أن تواكب بمفردها حجم الزيادة السكانية والتحديات العالمية والمحلية المتكررة.
أشار مدبولي إلى أن تأثير الحرب في شرق أوروبا على سلاسل التوريد العالمية للغذاء والطاقة تثقل كاهل الاقتصاد المصري بتكاليف مباشرة قيمتها 130 مليار جنيه مصري، بالإضافة إلى 335 مليار جنيه مصري مطلوبين للتعامل مع التبعات غير المباشرة للأزمة. وأوضح أن الضغط ناجم عن الشكوك حول موعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية. وتصل قيمة هذه الأعباء الإضافية إلى ثلاث مليارات دولار، وهو ما يمثل إنهاكا للموازنة الحكومية التي تعاني بالفعل من عجز كبير بقيمة تزيد على ثلاث مليارات دولار تنجم عن الفارق بين الإنفاق الذي يتجاوز 1,7 تريليون جنيه في العام والدخل السنوي الذي يزيد قليلاً على ١,٣ تريليون جنيه مصري.
لا تحقق المساعدات الخارجية، سواء من دول حليفة أو منظمات دولية، سوى ترقيع ثقوب نظام اقتصادي عقيم، لا يزيد على كونه هجينا مشوها لمشروع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الاشتراكي الفاشل ونهج الرئيس الراحل أنور السادات الليبرالي غير المكتمل. حان الوقت لكي تبني الدولة المصرية نظاما اقتصاديا جديدا بالكامل يتناغم مع النظام الاقتصادي العالمي. وإحدى الخطوات المهمة في هذا الاتجاه هي تشجيع المستثمرين الأجانب على العودة إلى السوق المصرية.
توسع القطاع الخاص
في المؤتمر الصحافي، أوضح رئيس الوزراء أن انعدام الأمن والاستقرار الذي غلب على المشهد السياسي في مصر على مدار عامين وحتى الإطاحة بنظام الإخوان في عام ٢٠١٣، دفع الاستثمارات الأجنبية أو ما يعرف باسم "الأموال الساخنة" إلى الخروج من السوق المصرية. وبالتالي كان على الدولة تعويض ذلك بضخ استثمارات كبيرة في مشروعات قومية كبرى تستهدف تجديد البنية التحتية وتحسين قطاعات الإسكان والصحة للمواطنين المحرومين.
وأكد مدبولي على أنه خلال الفترة من ٢٠١٥ وحتى ٢٠٢١، وفرت المشروعات القومية التي قادتها الدولة أكثر من خمسة ملايين فرصة عمل للشباب المصري، كما أنها مكنت شركات القطاع الخاص عن طريق التعاقدات معها لتنفيذ هذه المشروعات. وأضاف أن هذا لا يعني تأجيل أو إبطاء وتيرة تلك المشروعات القومية في الفترة المقبلة، حيث نمر بهذه الأزمة الاقتصادية. فلا تزال تلك المشروعات ذات أولوية وأضاف أنه سيتم العمل عليها لما أثبتته من أهمية في حياة المواطنين المصريين، كما أنها تمهد الطريق لعودة مستثمري الأموال الساخنة.
وكانت الحكومة قد بدأت بالفعل في تقديم حوافز للمستثمرين الأجانب الراغبين في العودة إلى السوق المصرية. ولم تقف هذه الحوافز عند التخفيف من القيود البيروقراطية اللازمة للحصول على الاعتمادات الحكومية وإدارة المنشآت التجارية. وأكد رئيس الوزراء أن المستثمرين، سواء كانوا مصريين أو أجانب، سيسمح لهم بالاستثمار في أصول مملوكة للدولة. وتم اتخاذ إحدى الخطوات في هذا الاتجاه بالفعل في مارس (آذار) بالسماح لصندوق أبو ظبي السيادي بالاستثمار في أصول مملوكة للدولة في شركات حكومية بقيمة ١,٨ مليار دولار.
وعلى مدار أربعة أعوام قادمة، تخطط الدولة لطرح أسهم مملوكة لها بقيمة عشرة مليار دولار كل عام، ليصبح الإجمالي النهائي ٤٠ مليار دولار بنهاية الأعوام الأربعة، في البورصة لمستثمرين أجانب ومحليين. وفي الوقت ذاته، تخطط الحكومة لزيادة نسبة مشاركة القطاع الخاص المصري في المشروعات الحكومية التي تديرها الدولة، بنسبة ٦٥ في المائة مقارنة بالنسبة الحالية التي تقدر بثلاثين في المائة. ومن المتوقع أن تكون تلك فرصة ذهبية لمجتمع متنام من رواد الأعمال والشركات الناشئة التي تعد من أقوى أعمدة دعم مستقبل الاقتصاد المصري.
دعم الشركات الناشئة
يوجد بمصر مجتمع هائل للشركات الناشئة التي تمتد عبر جميع قطاعات الاقتصاد، بدءاً من التطبيقات الهاتفية لسيارات الأجرة وحتى إنتاج الطاقة النظيفة من موارد صديقة للبيئة. ووفقا لتقرير منصة MAGNiTT الصادر في عام ٢٠٢١، جذبت بيئة الشركات الناشئة المصرية رقما قياسيا بإجمالي ٤٩١ مليون دولار من مستثمرين محليين وأجانب. ولهذا السبب، تصنف بيئة الأعمال الناشئة في مصر في المرتبة الثانية في الشرق الأوسط والأولى في أفريقيا فيما يتعلق بحجم صفقات رأس المال المخاطر التي يمكن إبرامها بنجاح خلال فترة زمنية قصيرة.
تملك مصر سوقا كبيرة الحجم ذات احتياجات لا تنتهي للحلول المبتكرة بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي الفريد وأن غالبية سكانها البالغ عددهم ١٠٣ ملايين مواطن من الشباب. وهذا يجعلها بيئة مثالية لبدء الشركات الناشئة ويوفر فرصا مربحة عديدة لرواد الأعمال المحليين والأجانب ولرؤوس الأموال. من المعروف أن الإجراءات البيروقراطية المعقدة في الحكومة المصرية هي التحدي الوحيد الذي تواجهه الشركات الناشئة، وأن تسجيل شركة جديدة في مصر عملية مرهقة تستنزف كثيراً من الأموال والوقت لكي تمر عبر الإجراءات البيروقراطية وشهور الانتظار من أجل الحصول على ترخيص حكومي للبدء في مزاولة النشاط التجاري.
ومع ذلك، بحسب سياسات الإصلاح الجديدة التي أعلنها رئيس الوزراء المصري، فإن كل ما سيتطلبه الأمر لتسجيل شركة ناشئة في المستقبل القريب هو إخطار الحكومة عبر منصة رقمية والحصول على ترخيص المزاولة في خلال فترة أقصاها عشرين يوماً. كذلك أكد مدبولي على أنه يجب إجراء بعض التعديلات الملحة على القوانين المنظمة لتسجيل "شركات الفرد الواحد" لإشراك رواد الأعمال الشباب الذين يديرون نشاطهم في العالم الافتراضي دون الحاجة إلى استئجار مساحة مكتبية فعلية، وهو أحد الشروط القانونية الحالية لتسجيل أي شركة.
كي لا نستبق الحدث
لا تحمل الأزمات المركبة التي يعاني منها العالم بدءا من جائحة كورونا وما تلاها من تدهور اقتصادي عالمي تحت ضغط الغزو الروسي لأوكرانيا أي جوانب إيجابية. بيد أن دفع الدول ذات الأنظمة الاقتصادية البالية، مثل مصر، لإجراء تغييرات كبرى في بنيتها الاقتصادية مع انفتاح للمجال السياسي أمام المعارضة يقدم منحة خفية وسط تلك المحن العصيبة.
تصب خطة الحكومة المقترحة لتقييد مشاركة الدولة كمنافس في السوق بنسبة ٦٥ في المائة على الأقل على مدار الأعوام الأربعة التالية في صالح القطاع الخاص وخاصة رواد الأعمال الشباب والمستثمرين الأجانب. ولكن تحمل العملية الضرورية طرح أسهم مشروعات الدولة لتحقيق هذا الهدف بعض المخاطر الخفية بتهميش ومن ثم إضعاف المشروعات التجارية التي تملكها القوات المسلحة، والتي كانت دائما العمود الفقري للدولة الوطنية.
في حديثه في حفل الإفطار، قال الرئيس السيسي إنه يخطط لطرح "الشركات التي تملكها القوات المسلحة المصرية في البورصة أمام مستثمري القطاع الخاص". يبدو هذا نظرياً قراراً ثوريا يتماشى مع خطة الحكومة الطموحة بتحرير السوق. ولكن عملياً، سوف يؤدي استباق عملية تهميش دور الجيش في الاقتصاد قبل إقامة ديمقراطية مستقرة تستطيع احتواء هيكل اقتصادي ليبرالي قوي إلى تعريض الاستقرار السياسي والاقتصادي للدولة الوطنية للخطر. علاوة على ذلك، يمكن أن يتسبب السماح للاستثمارات الأجنبية بالتوغل في النظام الاقتصادي المستقل للقوات المسلحة في تعريض المؤسسة العسكرية إلى مضايقات استراتيجية غير مرغوبة.
دائماً ما يمثل اقتصاد الجيش شبكة حماية تعتمد عليها الدولة في أوقات صعبة من الاضطرابات العسكرية والأزمات الاقتصادية. وهكذا يصبح الحفاظ على قوة اقتصاد الجيش، عن طريق الحفاظ على استقلاله عن الاقتصاد المدني، مهماً لضمان انتقال سلس من نظام اقتصادي عقيم إلى اقتصاد السوق المفتوحة المطلوب. حينها فقط يمكن للحكومة النقاش حول إمكانية طرح اقتصاد الجيش للتداول.
اقرأه أيضاً على المجلة
Commenti