ساهمت الآثار البركانية لوباء كورونا في تغيير الكثير من ديناميكيات التفاعل ضمن النظام العالمي على عدة مستويات، لكن لا أحد يعلم يقيناً بأن هذه التغيرات سوف تستمر في تشكيل العلاقات الدولية إلى ما بعد هدوء الأزمة العالمية أم أنه وضع مؤقت فرضته الظروف لحين تجاوزها، ومن ثم عودة الأمور على الساحة الدولية لطبيعتها، وهو سؤال الوقت وحده كفيل بالرد عليه. إلا أن أحد التحولات التي يجب علينا مراقبتها، في أثناء تلك المأساة العالمية، هي الديناميكية المتغيرة للعلاقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي، لأنها لن تؤثر فقط على مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، ولكن أهم من ذلك فإن الشكل الجديد لهذه العلاقة سوف يقرر المستقبل الاقتصادي للعالم بأسره. وربما إدراك هذه الحقيقة البسيطة هو ما دفع الرئيس الأمريكي ترامب لإجراء محادثة تليفونية مع سمو الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، يوم ٢٣ أبريل، وقبلها بيوم أجرى مكالمة هاتفية منفصلة مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، حث فيها الطرفين على "اتخاذ خطوات تجاه رأب الصدع الخليجي من أجل العمل معاً على مكافحة فيروس كورونا، وتقليص أثره على الاقتصاد، والتركيز على القضايا الإقليمية الهامة،" بحسب بيان المتحدث باسم البيت الأبيض. إن هذا "الصدع الخليجي" الذي يسعى الرئيس ترامب إلى إصلاحه الآن، كان قد بدأ قبل ثلاثة سنوات، في أثناء "القمة العربية الإسلامية الأمريكية" التي عقدت في الرياض في مايو ٢٠١٧ بعد أشهر قليلة من تولي الرئيس ترامب للحكم، حيث أعلنت دول الرباعي العربي (السعودية، الإمارات، البحرين، ومصر) مقاطعتهم لقطر دبلوماسياً واقتصادياً بسبب استمرار الأسرة الحاكمة في قطر وإصرارها على دعم التنظيمات الإرهابية في المنطقة بما يضر بمصالح جيرانها ويهدد استقرارهم الأمني والسياسي، وقد بارك الرئيس ترامب هذه الخطوة من جانب الرباعي العربي وشجعها، برغم الاعتراض الصارخ، آنذاك، من جانب وزارة الخارجية الأمريكية على موقف ترامب. ويبدو أن موقف ترامب هذا، واستمراره بشكل غير مباشر على تشجيع هذه الفرقة بين دول الخليج، قد عاد بالفائدة على الولايات المتحدة وحقق الكثير من النجاح الاقتصادي لإدارة ترامب الذي تعتمد شعبيته بشكل رئيسي على دعوته لإصلاح الاقتصاد الأمريكي. فعلى هامش "القمة العربية الإسلامية الأمريكية"، في مايو ٢٠١٧، وقّع الرئيس الأمريكي ترامب والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز سلسلة خطابات نوايا للمملكة العربية السعودية لشراء أسلحة من الولايات المتحدة يبلغ مجموعها ١١٠ مليار دولار تدفع على الفور، بالإضافة إلى ٣٥٠ مليار دولار تدفع على مدى ١٠ سنوات. كما ارتفعت الاستثمارات التي تضخها السعودية في الاقتصاد الأمريكي بشكل حاد منذ ذلك الحين، حيث أنه وفقا لتقارير وزارة الخزانة الأمريكية، زادت السعودية من ملكيتها لسندات الخزانة الأمريكية بنسبة ٨٣٪، أي من ٩٧ مليار دولار في ٢٠١٦ إلى ١٧٧ مليار دولار في ٢٠١٩. أيضاً لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الرئيس الأمريكي قد أجرى المكالمتين الهاتفيتين لقادة الإمارات وقطر، بعد يوم واحد فقط من الهبوط التاريخي المفاجئ في أسعار نفط تكساس، في ٢٠ أبريل، والذي وصل إلى سالب ٤٠ دولار للبرميل، نظراً لعدة عوامل أهمها هو الفجوة بين العرض والطلب في سوق النفط، بسبب فرض سياسة الإغلاق العام وحظر حركة المواطنين كأحد وسائل مكافحة انتشار فيروس كورونا، وهذا ما نسف ادعاء ترامب في يناير الماضي من أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة للنفط القادم من الشرق الأوسط، وأنها قادرة على تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة. فبعد أن هددت إيران باستهداف حقول النفط في دول الخليج العربي لزعزعة الاقتصاد الأمريكي، قال الرئيس ترامب في خطاب عام: "على مدى السنوات الثلاث الماضية، تحت قيادتي، أصبح اقتصادنا أقوى من أي وقت مضى، وقد تمكنت أمريكا من تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة... نحن مستقلون ولسنا بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط"، إلا إن الواقع والأرقام تقول أن الولايات المتحدة لا تزال بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط، ليس فقط بسبب مواصفاته المختلفة عن نفط تكساس، ولكن أيضًا لأن توفر النفط العربي في السوق الأمريكية يوفر ألية لامتصاص صدمات تقلبات السوق، ووفقًا لإحصاءات "إدارة معلومات الطاقة الأمريكية"، استوردت الولايات المتحدة، في عام ٢٠١٩، عدد ٩.١٠ مليون برميل يوميًا من النفط من ٩٠ دولة، وجاءت ١٨٪ من هذه الواردات من دول مجموعة "أوبك بلس" التي تقودها السعودية، بينما جاءت ١١٪ من هذه الواردات من دول الخليج العربي. وعلى عكس أسعار مؤشر غرب تكساس التي انهارت بشكل تاريخي من جراء أزمة كورونا، تبدو أسعار برنت أقوى في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية، حتى أنها لم تتأثر كثيراً بـ "حرب أسعار النفط" الأخيرة بين مجموعة "أوبك بلس" وروسيا، والتي انتهت باتفاق تاريخي لخفض الإنتاج بمقدار 10 ملايين برميل، من أجل تخفيف الآثار الاقتصادية للوباء على الدول المنتجة للنفط، إلا أن الولايات المتحدة، التي تصنف اليوم كأكبر منتج للنفط على مستوى العالم، لم تتمكن من الدخول ضمن هذا الاتفاق الهام بسبب القوانين واللوائح الأمريكية المعقدة التي تحد من سلطة رئيس الدولة في اتخاذ قرارات متعلقة ببعض الأمور الاقتصادية، ومنها إنتاج وتوزيع النفط. وبناءً عليه، يبدو أن إدارة ترامب قد أدركت أن سياسة مباركة، أو على الأقل تجاهل، "الصدع الخليجي" وإظهار تحيز لدولة خليجية ضد دولة أخرى لم تعد سياسة مفيدة للاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، بل ربما تفتح هذه السياسة الباب لتهديد محتمل لعلو يد الإدارة الأمريكية في علاقتها بدول الخليج، خصوصاً إذا ما لجأت واحدة أو أكثر من دول الخليج إلى استخدام ورقة أسعار النفط أو الاستثمارات المالية لفرض مواقف أو قرارات معينة من الإدارة الأمريكية، وهذا أمر محتمل لا سيما في ظل المآزق العديدة التي تضغط بعنف على الاقتصاد الأمريكي، منذ اندلاع أزمة كورونا. الآن وقد أصبح تحقيق المصالحة الخليجية مسألة تصب بشكل مباشر في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، نتوقع زيادة الجهود الصادقة من قبل إدارة ترامب لإصلاح ذات البين الخليجي في الفترة المقبلة، لكن تبقى الكلمة الأخيرة لدول الخليج وحدها بشأن قبول عودة قطر للبيت العربي، على الرغم من تعنت الأمير تميم وأسرته وإصرارهم على الاستمرار في دعم الإرهاب والإضرار بمصالح جيرانهم.
القمة العربية الإسلامية الأمريكية - الولايات المتحدة - السعودية - الإمارات - قطر - أزمة الخليج - المصالحة الخليجية - أزمة النفط - نفط تكساس - الصدع الخليجي - ترامب - محمد بن زايد - تميم بن حمد - الاقتصاد - العلاقات الدولية - فيروس كورونا - داليا زيادة
Comentarios