top of page

الحراك الجزائري يحتاج إلى إعادة ضبط البوصلة



في ١٦ فبراير، أصيب سكان مدينة خراطة، شمال الجزائر، بإحساس قوي بالديجافو، بينما كانوا يشاهدون حوالي خمسين ألف متظاهر يتجمعون في نفس الموقع، الذي شهد قبل عامين، مظاهرات عارمة لآلاف المواطنين الذين نزلوا للمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية شاملة في كافة مؤسسات الدولة، وإقالة كبار القيادات السياسية بها، وقد أرست هذه الاحتجاجات التي انطلقت بصورة عفوية، في عام ٢٠١٩، الأساس لحركة تغيير سلمي في الجزائر اشتهرت باسم "الحراك". وقد أتت الاحتجاجات التي أقيمت في منتصف فبراير الجاري، إحياءً للذكرى السنوية الثانية لانطلاق الحراك، وهي أول احتجاجات يقودها الحراك في شوارع العاصمة، منذ مارس ٢٠٢٠، حيث كانت الاحتجاجات قد توقفت امتثالًا لتدابير الإغلاق العامة التي تطبقها الحكومة ضد جائحة كورونا.


ترجع جذور الحراك إلى استياء الناس من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي ظل يحكم البلاد منذ عام ١٩٩٩. وقد أثيرت أسئلة حول قدرة بوتفليقة على الاستمرار في العمل كرئيس للدولة، في بداية عام ٢٠٠٥، بعد عدة وقائع فضحت الفساد المتفشي في الشركات المملوكة للدولة، فضلاً على الشبهات التي أحاطت بمشروع بناء "جامع الجزائر"، وهو مسجد كبير تجاوزت ميزانيته الميزانية المقدرة له مسبقًا بنسبة ٢,٥ في المائة، ووصلت إلى حوالي ١.٤ إلى ٢ مليار دولار أمريكي. وقد روجت الحكومة لبناء هذا المسجد على أنه محاولة لخلق فرص عمل للشباب الجزائري. ومع ذلك، تم منح معظم الأعمال للعمالة الصينية المهاجرة. أما القشة التي قصمت ظهر البعير كانت إعلان بوتفليقة أنه سيرشح نفسه لولاية خامسة كرئيس، زاعمًا أن التعديلات الدستورية الأخيرة، التي حددت عدد الفترات الرئاسية بفترتين فقط، لا تنطبق عليه بأثر رجعي. وبالنسبة للعديد من الجزائريين، كانت فكرة استمرار الرئيس، الذي نادراً ما ظهر علناً بعد إصابته بجلطة دماغية في ٢٠١٣، وإعادة ترشحه وانتخابه، أمر مخجل.


بعد الاحتجاج الأولي في خراطة، في ١٩ فبراير ٢٠١٩، اكتسب الحراك زخمًا سريعًا حيث شارك ما يقدر بنحو ٨٠٠ ألف شخص في الاحتجاجات في الجزائر العاصمة. وكانت هذه أول احتجاجات كبيرة في عاصمة البلاد منذ أن أصبحت الاحتجاجات في الشوارع غير قانونية في يونيو ٢٠٠١. وبعد ثلاثة أسابيع من الاحتجاج المستمر، في يوم ١١ مارس، أعلن الرئيس بوتفليقة أنه لن يسعى لإعادة الترشح في الانتخابات الرئاسية، واستقال رئيس الوزراء أحمد أويحيى من منصبه، وتم تأجيل الانتخابات الرئاسية، التي كان مقرر عقدها في أبريل ٢٠١٩، إلى أجل غير مسمى. وعلى مدى الأشهر التالية، تنحى بوتفليقة عن منصبه كرئيس تحت ضغوط من الجيش، وبعد أن خضع سياسيون فاسدون من الدائرة المقربة من الرئيس للمحاكمات. ورغم التقدم الذي أحرزه الحراك، فإن قرار إجراء الانتخابات في ١٢ ديسمبر ٢٠١٩، وسط معارضة شعبية واسعة، وانتخاب عبد المجيد تبون، الذي كان سابقًا رئيسًا للوزراء في عهد بوتفليقة، أعطى أسبابًا كثيرة للحراك لمواصلة الاحتجاج.


بسبب الإجراءات الاحترازية ضد جائحة فيروس كورونا، تم تجميد احتجاجات الحراك بشكل مؤقت. بينما اختار المتظاهرون طواعية الالتزام بلوائح الإغلاق لمكافحة الوباء، ادعى بعض المراقبين أن الحكومة استغلت الإغلاق لوقف تقدم الحركة السلمية الناشئة وتطورها. لكن بغض النظر، قرر زعماء الحراك عدم إضاعة الوقت الذي قضوه في بيوتهم، بل كما قال عضو في مجموعة على الإنترنت تدعم الحراك "إن هذه نوعًا ما كانت فرصة أعطت الحركة الوقت والمساحة للتفكير والتخطيط وإعادة التنظيم". وبعدما عاد الحراك إلى الشوارع مع الاحتجاج الجماهيري الذي نُظم في وقت سابق من هذا الشهر، يواجه الحراك سؤالًا وجوديًا بسيطًا ولكنه مهم: ما هي الخطوة التالية؟


مع عودة احتجاجات الحراك، قدم الرئيس تبون عدة تنازلات في محاولة لاحتواء الحركة، حيث تم تخفيف القيود المفروضة ورفع حظر التجول المتعلق بمواجهة انتشار جائحة كورونا، ودُعيت العديد من الأحزاب السياسية لمناقشة أفضل السبل للمصالحة مع الشعب الجزائري. كما أعلن الرئيس حل البرلمان الحالي والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة وإجراء تعديل وزاري وإطلاق سراح العشرات من المعتقلين المنتمين للحراك. وقد رأى بعض المتظاهرين في هذه التنازلات فرصة للضغط من أجل المزيد من التغيير في مؤسسات الدولة، في حين يرى أعضاء آخرون في الحركة أن هذه التنازلات من جانب الدولة هي مجرد مساع يائسة من قبل النظام لتجنب المساءلة. فمثلاً قال أحد ممثلي حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" الذي رفض دعوة الرئيس إنه "لا يمكن للشعب الجزائري أن يحرز تقدم في ظل هذا النظام القائم منذ استقلال البلاد، إنها عملية ثورية لهدف محدد للغاية، وهو رحيل النظام، النظام بأكمله بكل مكوناته".


إن رغبة المتظاهرين في رؤية الإرث السياسي لبوتفليقة قد تم استئصاله تمامًا من الساحة السياسية الجزائرية أمر مفهوم، بالنظر إلى تاريخه الطويل من المراوغات والوعود المنقوصة بالإصلاح. ولكن من المهم ألا تُعمي هذه الرغبة أعين أعضاء الحراك، وتجعلهم يتجاهلون إمكانية اتخاذ الجزائر خطوات نحو اتجاه سياسي جديد تمامًا، بفضل استعداد تبون الواضح للتعاون معهم. وبالتالي فلا ضير من استمرار الحراك في التفاوض مع النظام الحاكم، مع العلم أن الباب مفتوح دائمًا للعودة إلى الدعوة الأولية لرحيل النظام، خصوصاً إذا لم تتطور الأمور على النحو المأمول. لكن التحدي الأكبر الذي يواجه الحراك في هذه المرحلة هو كيفية توحيد رؤية وإرادة الحركة السلمية اللامركزية، خاصة عندما يصبح خصمهم أقل وضوحًا. إن تطوير شبكات الاتصال للحفاظ على الحراك نشطًا أثناء الوباء قد وفر البنية التحتية لحل مسألة التواصل، لكن المفتاح الحقيقي هو وجود رؤية واضحة حول وجهة الحراك الشعبي في المستقبل. يبدو أن حرص الحراك على الاستمرار في الوقوف ضد السلطة السياسية هو، على الأقل جزئياً، مدفوع بحقيقة أن رفض النظام الحاكم هو الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجميع. وإذا كان هذا صحيحًا، فماذا سيحدث للحراك عندما لا يبقى في السلطة قادة سياسيين مطلوب التخلص منهم.


bottom of page