يبدو أن العراق، خصوصاً إقليم كردستان ذو الحدود المباشرة مع كل من تركيا وإيران، سيكون هو المسرح الأكثر اشتعالاً لعمليات الجيش التركي التوسعية خارج حدوده، في العام الجاري، لكنه حتماً لن يكون الساحة الأسهل بالنسبة لتركيا التي ستجد نفسها عاجلاً أو آجلاً مضطرة للدخول في مواجهة، وإن كانت غير مباشرة، مع إيران، صاحبة النفوذ السياسي والعسكري الكبير داخل العراق، والتي تجمعها بتركيا علاقات متأرجحة بين التحالف أحياناً والخصومة غالباً، بشأن العديد من الملفات في منطقتي الشام والقوقاز.
قبل أيام، أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، انتهاء العملية العسكرية "مخلب النسر-٢" في منطقة غارا شمال العراق، والتي كان يشرف عليها أكار بنفسه، واستهدفت مراكز حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية كمنظمة إرهابية، إلا أنه رغم نجاح العملية في تحييد عدد كبير من عناصر حزب العمال، وتدمير خمسين موقع تابع لهم، بحسب تصريحات أكار، إلا أن العملية لاقت الكثير من ردود الفعل الغاضبة، ليس فقط بين الفصائل الكردية المختلفة، ولكن أيضاً في الولايات المتحدة التي تدعم حزب العمال منذ ٢٠١٤، رغم احتفاظها بتصنيفه كمنظمة إرهابية أجنبيه، ولاقت العملية أيضاً غضب شعبي داخل تركيا نفسها، حيث أن العملية العسكرية لم تنجح في إنقاذ الثلاثة عشر مواطناً الذين أسرهم حزب العمال الكردستاني في وقت سابق، وعثرت القوات عليهم مقتولين برصاصات في الرأس في الكهف الذي كانوا محتجزين به، وحمّل البعض مسؤولية قتلهم على الجيش التركي.
لقد كان تدخل تركيا في العراق، تحت عنوان مكافحة الإرهاب، على قمة أولويات الاستراتيجية العسكرية لتركيا في العام ٢٠٢١، التي استعرضها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أمام لجنة الخطة والموازنة التابعة للمجلس الوطني الأكبر لتركيا، في نوفمبر الماضي، حيث أكد أكار على أن الجيش التركي يخطط لمواصلة وتكثيف العمليات العسكرية في كل من سوريا والعراق، من أجل مكافحة حزب العمال الكردستاني، ولكن ألمح أكار في عرضه، آنذاك، إلى أن تركيا حريصة على عدم التعدي على السيادة العراقية وأنها حريصة على إعادة بناء علاقات إيجابية مع الحكومة العراقية. وبالفعل، لم يتحرك الجيش التركي إلى شمال العراق إلا بعد موافقة المسئولين في كل من بغداد وأربيل.
في أواخر شهر يناير، أي قبل حوالي أسبوع من بدء تنفيذ علمية "مخلب النسر-٢"، قام وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، بعمل زيارة إلى العراق، التقى خلالها رئيس الدولة وكبار المسؤولين في الحكومة المركزية في بغداد، وأيضاً عقد لقاءات مهمة ونادرة في أربيل مع القيادات الحاكمة من الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان شمال العراق، الذي يتمتع بالحكم الذاتي في إطار الدولة العراقية، منذ عام ٢٠٠٥ وفقاً للدستور. هذه الزيارة كان يسعى لها أكار منذ العام الماضي، وحال دونها حادثة قتل عن طريق الخطأ لضباط كبار بالجيش العراقي أثناء اجتماعهم على المنطقة الحدودية بين العراق وتركيا، ترتب عليها رفض بغداد استقبال أي مسؤولين أتراك، إلى حين تم تجاوز سوء التفاهم بعد سلسلة من اللقاءات الدبلوماسية التي قام بها رئيس وزراء العراق في أنقرة نهاية العام الماضي. في المؤتمر الصحفي الذي عقده أكار في ختام زيارته إلى بغداد وأربيل، في يناير، قال إنه ناقش ضرورة مكافحة حزب العمال الكردستاني مع المسؤولين في أربيل وبغداد، وإنه سعيد باتفاق الرؤى بينه وبينهم في هذا الشأن.
وربما لجأ الجيش التركي للعودة شرقاً لمواصلة مشروعاته التوسعية في المنطقة، بعد أن خابت أماله بشأن إحراز أي مكاسب في الجبهة الغربية، خصوصاً بعد أن سادت حالة من الهدوء الحذر للعاصفة التي افتعلتها تركيا في شرق البحر المتوسط الصيف الماضي، وكذلك خيبة أمل تركيا بشأن ليبيا، بعد نجاح منتدى الحوار السياسي الليبي، برعاية الأمم المتحدة، في وضع البلاد على أول طريق الحل السياسي، وجعلت من الوجود التركي داخل ليبيا، لا سيما العسكري، أمر غير قانوني. وربما أيضأ تحاول تركيا من خلال تدخلها العسكري في العراق، إحراز المزيد من المكاسب في منطقة الشام ضد روسيا وإيران، بعد النجاح السريع الذي حققته تركيا، العام الماضي، في حربها إلى جانب أذربيجان على إقليم "ناغورنو كاراباخ" ضد أرمينيا المدعومة بقوة من روسيا وإيران، والذي أكسب تركيا نفوذ غير مسبوق في منطقة القوقاز.
إلا أن إيران، ومن وراءها روسيا، لن تتيح للجيش التركي التدخل في ساحة المعركة العراقية بنفس السهولة التي حدثت في ناغورنو كاراباخ، حيث أن الوجود العسكري التركي في العراق، خصوصاً في الشمال، يهدد نفوذ روسيا في سوريا، ويهدد كذلك نفوذ إيران في العراق، فكل من تركيا وإيران يدعم فصيل كردي عراقي مختلف. تركيا تدعم الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل، بينما إيران تدعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، والحزبين بينهما تاريخ طويل من الصراعات المسلحة. وأيضأ، تحظى إيران بنفوذ كبير عبر الميليشيات الموالية لها في جميع أنحاء العراق، ومنها ميليشيا "عصائب أهل الحق"، التي أصدرت بيان، في اليوم التالي لإعلان تركيا انتهاء عملية "مخلب النسر-٢"، تصف فيه العملية العسكرية التركية بأنها "انتهاك ضد كل القوانين والأعراف السماوية والدولية"، وطالبت في نفس البيان القوات التركية بالانسحاب من شمال العراق، ودعت الحكومة في بغداد إلى رفض قيام القوات المسلحة التركية بأي عمليات عسكرية على الأراضي العراقية في المستقبل، وإلا قامت ميليشيا عصائب أهل الحق، حسبما ذكرت في بيانها، "بمقاومة المحتل التركي بنفسها"، فيما بدا وكأنه رسالة غير مباشرة من إيران إلى تركيا لتجنب تحدي النفوذ الإيراني في العراق.
من المتوقع أن لا تتراجع تركيا عن مواصلة التدخل العسكري في شمال العراق، رغم التهديدات الإيرانية، لكنها بالتأكيد ستحاول قدر الإمكان تجنب أي مواجهة مباشرة بينها وبين إيران، أولاً نظراً لاعتماد تركيا اقتصادياً على إيران، خصوصاً في استيراد الغاز الذي يشكل شريان حياة بالنسبة لتركيا، وثانياً لأن أي مواجهة عسكرية بين تركيا وإيران في العراق، سيكون تكلفتها كبيرة جداً على تركيا بالمقارنة بالتكلفة التي قد تتكبدها إيران، لأن تركيا في هذه الحالة ستحارب بجنودها وعتادها المباشر، بينما ستحارب إيران بالوكالة عبر الميليشيات الكثيرة الموالية لها هناك. لهذا فإن الاحتمال الأكبر هو أن تسعى تركيا لعمل اتفاق مع إيران، بشأن استمرار التواجد العسكري التركي في شمال العراق، يشبه ما حدث بينهما من قبل في سوريا.
Comments